ابتسامة الزهر
16-06-2023, 06:12 PM
عندما يتطاول الزمن
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين.
تطاوُلُ الزمن من السنن الكونية التي ابتلى الله بها عباده؛ ليبلوهم أيهم يبقى على دينه الذي ارتضاه للبشرية، وأيهم ينقلب على عقِبَيه، ومع تطاول الزمن، يبدأ الناس بالتبديل والتحريف في دين الله الذي نزل به آدم عليه السلام؛ فقوم نوح تطاول عليهم الزمن، حتى وقع فيهم الشرك، ابتدعوا الشرك شيئًا فشيئًا، وشرك قوم نوح كانت بدايته عمل صالح محمود؛ وهو احترام الصالحين، ثم انتقلوا إلى تقديسهم، ثم إلى تصويرهم بعد موتهم، ثم إلى نحت تماثيلَ لهم، ثم إلى عبادتهم؛ فكان الشرك الأكبر.
فبعث الله نوحًا عليه السلام ليردهم إلى دين الله: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [الأعراف: 59].
وهكذا تَتَالتْ سُنَّة الخالق العليم في البشرية؛ تطاوَلَ الزمن على عاد وثمود، وقوم شعيب، وقوم لوط، وكلما استغرقت البشرية بكفرها وضلالها، أرسل الله إليها رسلًا؛ ليعودوا بالناس إلى دين الله؛ دين التوحيد، وهذا ما تطالعنا به سورة الأعراف عند ذكر قصة كل نبي: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 65]، ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 73]، ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 85]، ثم أرسل الله موسى إلى بني إسرائيل، فما كانوا ليشذوا عن قاعدة الابتلاء بتطاول الزمن: ﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ [القصص: 44، 45].
﴿ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا ﴾ [القصص: 45]؛ أي: من بعد موسى، ﴿ فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ﴾ [القصص: 45]، حتى نسوا ذكر الله؛ أي: عهده وأمره؛ نظيره: ﴿ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الحديد: 16]، وظاهر هذا يُوجِب أن يكون جرى لنبينا عليه السلام ذِكْر في ذلك الوقت، وأن الله سيبعثه، ولكن طالت المدة، وغلبت القسوة، فنسِيَ القوم ذلك، وقيل: آتينا موسى الكتاب، وأخذنا على قومه العهود، ثم تطاول العهد فكفروا، فأرسلنا محمدًا مجددًا للدين، وداعيًا الخلق إليه؛ [تفسير القرطبي].
وأمة محمد صلى الله عليه وسلم كذلك، ليست خارج هذه القاعدة، وهذا ما لفت الله عز وجل انتباه المؤمنين إليه، في سورة الحديد، فحذَّرنا أن نقع بما وقع به اليهود والنصارى عندما طال عليهم الأمد: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16].
يقول ابن كثير: "وقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الحديد: 16] نهى الله المؤمنين أن يتشبَّهوا بالذين حملوا الكتاب قبلهم من اليهود والنصارى، لما تطاول عليهم الأمد، بدَّلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واشترَوا به ثمنًا قليلًا، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة، والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد"؛ [انتهى].
ولو تأملنا السبب الذي يدفع الناس إلى الكفر، وتبديل دين الله مع تطاول الزمن، لوجدناه: امتلاك الناس لزمام الدنيا بعناصرها الثلاث: النعم الوفيرة، القوة، السيادة:
قوم عاد: ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾ [فصلت: 15]، ومع بلوغهم هذا الحد من الطغيان في الاعتقاد بالذات البشرية إلى حد التألُّه، كانوا قد نسوا أن هناك إلهًا خلقهم وأعطاهم قوتهم التي يستكبرون بها، وهو القادر على سلبها منهم، وقد كان: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [فصلت: 15، 16].
وقوم شعيب: ﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ﴾ [هود: 91].
وقوم صالح: ﴿ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ﴾ [الشعراء: 146 - 149].
وقوم لوط: ﴿ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 82].
وفرعون: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [القصص: 38]؛ يقول القرطبي في تفسيره: "قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38]؛ قال ابن عباس: كان بينها وبين قوله: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24] أربعون سنة، وكذب عدو الله، بل علِم أن له ثَمَّ ربًّا، هو خالقه وخالق قومه، ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [الزخرف: 87]"؛ [انتهى].
ثم يخبرنا الله عز وجل عن سبب استكبار مشركي قريش، واستمرارهم في غيِّهم وإصرارهم على الكفر في سورة الأنبياء: ﴿ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ * بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الأنبياء: 42 - 44].
"يقول تعالى مخبرًا عن المشركين: إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال، أنهم مُتِّعوا في الحياة الدنيا، ونُعِّموا، وطال عليهم العمر فيما هم فيه، فاعتقدوا أنهم على شيء"؛ [ابن كثير].
واليوم أين نحن من تطاول الزمن؟ نحن اليوم نعيش تطاول الزمن كما عاشته الأمم السابقة، وقع فينا الشرك كما وقع في قوم نوح، وألَّهنا الإنسان كما ألَّهه قوم عاد، فوضعنا قوانينَ تخالف وتتحدى قوانين الله، وقلنا: هذه سعادة البشرية، وهذه نجاتها، هذا حكم الشعب، وهذا حق قوم لوط، وهذا دستور وضع الملحدون بنوده، وتصرفنا في كتابنا كما تصرف اليهود والنصارى في كتبهم، حرفنا الكلم عن مواضعه، وحكمنا بما لم يحكم به الله، حللنا الحرام، وحرمنا الحلال، اشتغلنا بالربا، كما اشتغل به بنو إسرائيل، حتى أصبحت لا تُستنكر، بل قائمة من قوائم المجتمعات "الناجحة"، لا يمكن الاستغناء عنها، تعاملنا مع ربنا تمامًا كبني إسرائيل: لله كلام ولنا كلام، وكلامنا يناسب عصرنا أكثر من كلام الله.
لله حكم، وللديمقراطية حكم، وحكم الديمقراطية أفضل لزماننا من حكم الله.
لله قوانينه في اقتصاد الأمة، ولنا قوانيننا التي يحكمها "الربا"، ويتحكم بها، وقوانيننا أفضل في بناء "مجتمعاتنا".
هكذا يتطاول الزمان على البشر: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 42 - 44].
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن، ما ظهر منها، وما بطن.
عفوك ربي وغفرانَك؛ والله من وراء القصد.
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين.
تطاوُلُ الزمن من السنن الكونية التي ابتلى الله بها عباده؛ ليبلوهم أيهم يبقى على دينه الذي ارتضاه للبشرية، وأيهم ينقلب على عقِبَيه، ومع تطاول الزمن، يبدأ الناس بالتبديل والتحريف في دين الله الذي نزل به آدم عليه السلام؛ فقوم نوح تطاول عليهم الزمن، حتى وقع فيهم الشرك، ابتدعوا الشرك شيئًا فشيئًا، وشرك قوم نوح كانت بدايته عمل صالح محمود؛ وهو احترام الصالحين، ثم انتقلوا إلى تقديسهم، ثم إلى تصويرهم بعد موتهم، ثم إلى نحت تماثيلَ لهم، ثم إلى عبادتهم؛ فكان الشرك الأكبر.
فبعث الله نوحًا عليه السلام ليردهم إلى دين الله: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [الأعراف: 59].
وهكذا تَتَالتْ سُنَّة الخالق العليم في البشرية؛ تطاوَلَ الزمن على عاد وثمود، وقوم شعيب، وقوم لوط، وكلما استغرقت البشرية بكفرها وضلالها، أرسل الله إليها رسلًا؛ ليعودوا بالناس إلى دين الله؛ دين التوحيد، وهذا ما تطالعنا به سورة الأعراف عند ذكر قصة كل نبي: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 65]، ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 73]، ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 85]، ثم أرسل الله موسى إلى بني إسرائيل، فما كانوا ليشذوا عن قاعدة الابتلاء بتطاول الزمن: ﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ [القصص: 44، 45].
﴿ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا ﴾ [القصص: 45]؛ أي: من بعد موسى، ﴿ فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ﴾ [القصص: 45]، حتى نسوا ذكر الله؛ أي: عهده وأمره؛ نظيره: ﴿ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الحديد: 16]، وظاهر هذا يُوجِب أن يكون جرى لنبينا عليه السلام ذِكْر في ذلك الوقت، وأن الله سيبعثه، ولكن طالت المدة، وغلبت القسوة، فنسِيَ القوم ذلك، وقيل: آتينا موسى الكتاب، وأخذنا على قومه العهود، ثم تطاول العهد فكفروا، فأرسلنا محمدًا مجددًا للدين، وداعيًا الخلق إليه؛ [تفسير القرطبي].
وأمة محمد صلى الله عليه وسلم كذلك، ليست خارج هذه القاعدة، وهذا ما لفت الله عز وجل انتباه المؤمنين إليه، في سورة الحديد، فحذَّرنا أن نقع بما وقع به اليهود والنصارى عندما طال عليهم الأمد: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16].
يقول ابن كثير: "وقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الحديد: 16] نهى الله المؤمنين أن يتشبَّهوا بالذين حملوا الكتاب قبلهم من اليهود والنصارى، لما تطاول عليهم الأمد، بدَّلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واشترَوا به ثمنًا قليلًا، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة، والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد"؛ [انتهى].
ولو تأملنا السبب الذي يدفع الناس إلى الكفر، وتبديل دين الله مع تطاول الزمن، لوجدناه: امتلاك الناس لزمام الدنيا بعناصرها الثلاث: النعم الوفيرة، القوة، السيادة:
قوم عاد: ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾ [فصلت: 15]، ومع بلوغهم هذا الحد من الطغيان في الاعتقاد بالذات البشرية إلى حد التألُّه، كانوا قد نسوا أن هناك إلهًا خلقهم وأعطاهم قوتهم التي يستكبرون بها، وهو القادر على سلبها منهم، وقد كان: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [فصلت: 15، 16].
وقوم شعيب: ﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ﴾ [هود: 91].
وقوم صالح: ﴿ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ﴾ [الشعراء: 146 - 149].
وقوم لوط: ﴿ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 82].
وفرعون: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [القصص: 38]؛ يقول القرطبي في تفسيره: "قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38]؛ قال ابن عباس: كان بينها وبين قوله: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24] أربعون سنة، وكذب عدو الله، بل علِم أن له ثَمَّ ربًّا، هو خالقه وخالق قومه، ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [الزخرف: 87]"؛ [انتهى].
ثم يخبرنا الله عز وجل عن سبب استكبار مشركي قريش، واستمرارهم في غيِّهم وإصرارهم على الكفر في سورة الأنبياء: ﴿ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ * بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الأنبياء: 42 - 44].
"يقول تعالى مخبرًا عن المشركين: إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال، أنهم مُتِّعوا في الحياة الدنيا، ونُعِّموا، وطال عليهم العمر فيما هم فيه، فاعتقدوا أنهم على شيء"؛ [ابن كثير].
واليوم أين نحن من تطاول الزمن؟ نحن اليوم نعيش تطاول الزمن كما عاشته الأمم السابقة، وقع فينا الشرك كما وقع في قوم نوح، وألَّهنا الإنسان كما ألَّهه قوم عاد، فوضعنا قوانينَ تخالف وتتحدى قوانين الله، وقلنا: هذه سعادة البشرية، وهذه نجاتها، هذا حكم الشعب، وهذا حق قوم لوط، وهذا دستور وضع الملحدون بنوده، وتصرفنا في كتابنا كما تصرف اليهود والنصارى في كتبهم، حرفنا الكلم عن مواضعه، وحكمنا بما لم يحكم به الله، حللنا الحرام، وحرمنا الحلال، اشتغلنا بالربا، كما اشتغل به بنو إسرائيل، حتى أصبحت لا تُستنكر، بل قائمة من قوائم المجتمعات "الناجحة"، لا يمكن الاستغناء عنها، تعاملنا مع ربنا تمامًا كبني إسرائيل: لله كلام ولنا كلام، وكلامنا يناسب عصرنا أكثر من كلام الله.
لله حكم، وللديمقراطية حكم، وحكم الديمقراطية أفضل لزماننا من حكم الله.
لله قوانينه في اقتصاد الأمة، ولنا قوانيننا التي يحكمها "الربا"، ويتحكم بها، وقوانيننا أفضل في بناء "مجتمعاتنا".
هكذا يتطاول الزمان على البشر: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 42 - 44].
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن، ما ظهر منها، وما بطن.
عفوك ربي وغفرانَك؛ والله من وراء القصد.