صادق الاحساس
15-08-2023, 09:50 PM
وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ
د. خالد سعد النجار
بسم الله الرحمن الرحيم
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (66)
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} الميثاق: العهد الثقيل المؤكد باليمين؛ وسمي بذلك من الوَثاق. وهو الحبل الذي يُشد به المأسور، كما في قوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد:4]
وهذا هو الإنعام العاشر، لأنه إنما أخذ ميثاقهم لمصلحتهم، والميثاق المراد به الشريعة حيث وعدهم بالعمل بها وقد سمته كتبهم «عهدا» فهو العهد منهم ليعملنّ بما في التوراة، فلما جاء موسى قرءوا ما فيها من التثقيل فامتنعوا من أخذها، ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ} [البقرة:83]
قال القفال: قال ميثاقكم ولم يقل مواثيقكم، لأنه أراد ميثاق كل واحد منكم، كقوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [الحج:5] أو لأن ما أخذه على واحد منهم، أخذه على غيره، فكان ميثاقاً واحداً، ولو جمع لاحتمل التغاير.
{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} الجبل الذي ناجى الله تعالى عليه موسى -عليه السلام- ببرية سيناء.. أوضحه بقوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [الأعراف:171].
وسبب رفعه امتناعهم من دخول الأرض المقدّسة، أو من السجود، أو من أخذ التوراة والتزمها.. أقوال ثلاثة.
روي أن موسى لما جاء إلى بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة قال لهم: "خذوها والتزموها"، فقالوا: لا، إلا أن يكلمنا الله بها، كما كلمك، فصعقوا ثم أحيوا.
فقال لهم: خذوها، فقالوا: لا. فأمر الله تعالى الملائكة فاقتلعت جبلاً من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأخرج الله تعالى البحر من ورائهم، وأضرم ناراً بين أيديهم، فاحتاط بهم غضبه، فقيل لهم: خذوها وعليكم الميثاق أن لا تضيعوها، وإلا سقط عليكم الجبل، وغرقكم البحر، وأحرقتكم النار، فسجدوا توبة لله، وأخذوا التوراة بالميثاق، وسجدوا على شق لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفاً. فلما رحمهم الله قالوا: لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها، فأَمَرُّوا سجودَهم على شِقٍّ واحدٍ.
{خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم} قائلين لهم خذوا، وذلك هو الذي أخذ الميثاق عليه. والأخذ مجاز عن التلقي والتفهم.
ولم يبين هنا هذا الذي أتاهم ما هو، ولكنه بين في موضع آخر أنه الكتاب الفارق بين الحق والباطل، وذلك في قوله: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:53]
{بِقُوَّةٍ} بإتقان التلقي وجدّ واجتهاد وعزيمة، والباء للمصاحبة، أي أخذاً مصحوباً بقوة، فلا تهملوا شيئاً منه {وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ} أي اذكروا كل ما فيه، واعملوا به؛ لأن {ما} اسم موصول يفيد العموم. والمعنى: احفظوا ما فيه ولا تنسوه وادرسوا ألفاظه وتدبروا معانيه وطبقوه في حياتكم.
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} علة للأمر بقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} ولذلك فصلت بدون عطف.
فالأخذ بهذا الميثاق الذي آتاهم الله تعالى على وجه القوة، وذكر ما فيه وتطبيقه يوجب التقوى؛ لأن الطاعات يجر بعضها بعضاً، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]؛ فالطاعات يجر بعضها بعضاً، لأن الطاعة إذا ذاق الإنسان طعمها نشط، وابتغى طاعة أخرى، ويتغذى قلبه؛ وكلما تغذى من هذه الطاعة رغب في طاعة أخرى؛ وبالعكس المعاصي: فإنها توجب وحشة بين العبد وبين الله عزّ وجلّ، ونفوراً، والمعاصي يجر بعضها بعضاً؛ وسبق قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]
والذي يفهم من سياق الكلام أنهم امتثلوا الأمر وفعلوا مقتضاه، يدل على ذلك {ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} أي أعرضتم عن الميثاق والعمل بما فيه، وأصل التولي: أن يكون بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان.
وقد عُلم أنهم بعدما قبلوا التوراة، تولوا عنها بأمور، فحرّفوها، وتركوا العمل بها، وقتلوا الأنبياء، وكفروا بالله، وعصوا أمره. ومن ذلك ما اختص به بعضهم، وما عمله أوائلهم، وما عمله أواخرهم.
د. خالد سعد النجار
بسم الله الرحمن الرحيم
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (66)
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} الميثاق: العهد الثقيل المؤكد باليمين؛ وسمي بذلك من الوَثاق. وهو الحبل الذي يُشد به المأسور، كما في قوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد:4]
وهذا هو الإنعام العاشر، لأنه إنما أخذ ميثاقهم لمصلحتهم، والميثاق المراد به الشريعة حيث وعدهم بالعمل بها وقد سمته كتبهم «عهدا» فهو العهد منهم ليعملنّ بما في التوراة، فلما جاء موسى قرءوا ما فيها من التثقيل فامتنعوا من أخذها، ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ} [البقرة:83]
قال القفال: قال ميثاقكم ولم يقل مواثيقكم، لأنه أراد ميثاق كل واحد منكم، كقوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [الحج:5] أو لأن ما أخذه على واحد منهم، أخذه على غيره، فكان ميثاقاً واحداً، ولو جمع لاحتمل التغاير.
{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} الجبل الذي ناجى الله تعالى عليه موسى -عليه السلام- ببرية سيناء.. أوضحه بقوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [الأعراف:171].
وسبب رفعه امتناعهم من دخول الأرض المقدّسة، أو من السجود، أو من أخذ التوراة والتزمها.. أقوال ثلاثة.
روي أن موسى لما جاء إلى بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة قال لهم: "خذوها والتزموها"، فقالوا: لا، إلا أن يكلمنا الله بها، كما كلمك، فصعقوا ثم أحيوا.
فقال لهم: خذوها، فقالوا: لا. فأمر الله تعالى الملائكة فاقتلعت جبلاً من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأخرج الله تعالى البحر من ورائهم، وأضرم ناراً بين أيديهم، فاحتاط بهم غضبه، فقيل لهم: خذوها وعليكم الميثاق أن لا تضيعوها، وإلا سقط عليكم الجبل، وغرقكم البحر، وأحرقتكم النار، فسجدوا توبة لله، وأخذوا التوراة بالميثاق، وسجدوا على شق لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفاً. فلما رحمهم الله قالوا: لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها، فأَمَرُّوا سجودَهم على شِقٍّ واحدٍ.
{خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم} قائلين لهم خذوا، وذلك هو الذي أخذ الميثاق عليه. والأخذ مجاز عن التلقي والتفهم.
ولم يبين هنا هذا الذي أتاهم ما هو، ولكنه بين في موضع آخر أنه الكتاب الفارق بين الحق والباطل، وذلك في قوله: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:53]
{بِقُوَّةٍ} بإتقان التلقي وجدّ واجتهاد وعزيمة، والباء للمصاحبة، أي أخذاً مصحوباً بقوة، فلا تهملوا شيئاً منه {وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ} أي اذكروا كل ما فيه، واعملوا به؛ لأن {ما} اسم موصول يفيد العموم. والمعنى: احفظوا ما فيه ولا تنسوه وادرسوا ألفاظه وتدبروا معانيه وطبقوه في حياتكم.
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} علة للأمر بقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} ولذلك فصلت بدون عطف.
فالأخذ بهذا الميثاق الذي آتاهم الله تعالى على وجه القوة، وذكر ما فيه وتطبيقه يوجب التقوى؛ لأن الطاعات يجر بعضها بعضاً، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]؛ فالطاعات يجر بعضها بعضاً، لأن الطاعة إذا ذاق الإنسان طعمها نشط، وابتغى طاعة أخرى، ويتغذى قلبه؛ وكلما تغذى من هذه الطاعة رغب في طاعة أخرى؛ وبالعكس المعاصي: فإنها توجب وحشة بين العبد وبين الله عزّ وجلّ، ونفوراً، والمعاصي يجر بعضها بعضاً؛ وسبق قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]
والذي يفهم من سياق الكلام أنهم امتثلوا الأمر وفعلوا مقتضاه، يدل على ذلك {ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} أي أعرضتم عن الميثاق والعمل بما فيه، وأصل التولي: أن يكون بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان.
وقد عُلم أنهم بعدما قبلوا التوراة، تولوا عنها بأمور، فحرّفوها، وتركوا العمل بها، وقتلوا الأنبياء، وكفروا بالله، وعصوا أمره. ومن ذلك ما اختص به بعضهم، وما عمله أوائلهم، وما عمله أواخرهم.