النجمة المضيئة
26-08-2024, 10:09 PM
الكذب والإشاعة (خطبة)-2
د. أمير بن محمد المدري
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله:
اعلموا أن من علاماتِ الساعة أن يفشوَ الكذبَ، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعةُ حتى تظهرَ الفتنُ، ويكثرَ الكذبُ، وتتقاربَ الأسواقُ، ويتقاربَالزمانُ، ويكثُرَ الهرجُ»، قيل: وما الهرجُ؟ قال: «القتل» [أخرجه أحمد (2 / 519) عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة، " السلسلة الصحيحة " 6 / 639].
ومن علاماتِها أن يُصدَّقَ الكاذبُ وتستقبِله وسائلُ الإعلامِ ويُفسحَ لقلمهِ المجالَ، وتُفردَ له الصفحاتُ ليكتُبَ ويُنَظِّرَ ويُستشار، وفي المقابلِ يُكذَّبَ الصادقُ، ويُتهم بما ليس فيه، ولا يُسمحُ له بالكتابةِ أو الظهورِ في وسائلِ الإعلامِ ونحوِ ذلك، صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن أمامِ الدجالِ سنينُ خداعةٌ؛ يُكَذَّبُ فيها الصادقُ، ويُصدَّقُ فيها الكاذبُ، ويُخَوَّنُ فيها الأمينُ، ويُؤتمنُ فيها الخائنُ، ويَتَكلمَ فيها الرويبضةُ»، قيل: وما الرويبضةُ؟ قال: «الفويسقُ يتكلمُ في أمرِ العامةِ» [مسند أحمد: ج3/ص220 ح 13322- السلسلة الصحيحة " 4 / 508].
فاتقوا الله يا عبادَ الله، ولا يَغُرَّنَكُم باللهِ الغَرور، ولا يَفتِنكُم كثرةُ الهالكين، وكونوا مع الصادقينَ، واسمعوا إلى ما أعدَّه الله عز وجل لمن تركَ الكذبَ، قال: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وبِبَيْتٍ فِي وسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وإِنْ كَانَ مَازِحًا، وبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ» [أخرجه أبو داود في كتاب الأدب (4800) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه]، ومعنى زعيم أي: ضامنٌ وكفيلٌ، واسمعوا لقصةِ الإمامِ الزُّهريِّ التي رواها يعقوبُ بنُ شيبةَ في مسندِه، قال: دخل سليمانُ بنُ يسار على الخليفةِ الأمويِّ هشامِ بنِ عبدِ الملكِ فقال له: يا سليمانُ، الذي تولى كِبْرَه يعني في قصةِ الإفكِ من هو؟ قال: هو عبدُ الله بنُ أبي، قال: كذبتَ هو عليٌّ، قال: أميرُ المؤمنينَ أعلمُ بما يقولُ، فدخلَ الإمامُ محمدُ بنُ شهابٍ الزهريُّ: دخل فقال له الخليفةُ الأُمويُّ: يا ابنَ شهاب، من الذي تولى كِبَرُه؟ فقال الزهري: هو ابنُ أُبي، قال: كذبتَ هو عليُّ، فغضبَ الإمامُ الزهريُّ وانتفض قائلًا: أنا أكذبُ لا أبا لك؟! والله، لو نادى منادٍ من السماءِ: إنَّ الكذبَ حلالٌ ما كذبتُ، حدثني عروةُ وسعيدُ وعبدُ الله وعلقمةُ كلُّهم عن عائشةَ ك أن الذي تولى كِبْرَهُ هو عبدُ الله بنُ أبي، فقال الخليفةُ الأمويُّ: "يبدو أننا أغضبنا الشيخ".[ فتح الباري - ابن حجر - ج ٧ - الصفحة ٣٣٧ ]الله أكبر، فهذه طريقُ رسولِكم، وهذا هديُ سلفِكم الصالحُ رحمهم الله.
عباد الله: لا يخفى على عاقلٍ خطرُ الإشاعةِ في المجتمعِ، فكم من بيتٍ حُطَّمتْ سمُعَته، وكم من مُسلمٍ رَوّعتْه، وكم من أمنٍ زَعزعتْه، وكم من بريءٍ ظَلَمَتْه، وكم من عِرضٍ لطّختْه، ولذلك كانَ عَذابُ مُصَدِّر الإشاعةِ الكاذبةِ في البرزخِ ـ وهو مرحلةُ ما بعدَ الموتِ إلى قيامِ الساعةِ ـ كان عذابُه أن يقومَ عليه قائمٌ بكَلّوبٍ من حديدٍ، فيُدْخِلُ ذلك الكلّوبَ في شِدْقِه، فيُشَرْشِرُ أحدَ شِدْقَيهِ حتى يبلُغَ قَفاه، ثم يَفْعَلُ بالشدقِ الآخرِ مثلَ ذلك، ثم يعودُ للشدقِ الأولِ فإذا هو قدْ التئمَ على هيئتِه الأولى، فيُشرشِرُه إلى قفاه، ثم يعودُ إلى الآخرِ... وهكذا يُعَذَّبُ في البرزخِ عياذًا بالله من ذلك لأنَّه يَكذِبُ الكِذْبةَ فتبلغُ الآفاقَ، كما جاءَ ذلك عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كما في حديثِ البخاريِّ ومسلمٍ.
ما أكثر الإشاعات التي تطلق في أوساطنا ونسمعها هذه الأيام، إشاعات مقصودة، وإشاعات غير مقصودة، فلا يكاد يشرق شمس يوم جديد إلا وتسمع بإشاعة، من هنا أو من هناك.
أيها المسلمون:
إن تاريخ الإشاعة قديم، قدم هذا الإنسان، وقد ذُكر في كتاب الله عز وجل نماذج من ذلك منذ فجر التاريخ وبقراءة في تاريخ الأنبياء عليهم السلام وقصصهم نجد أن كُلًا منهم قد أُثير حوله الكثير من الإشاعات من قبل قومه ثم يبثونها ويتوارثونها أحيانًا. ولا شك أن تلك الإشاعات كان لها الأثر في جعل بعض المعوقات في طريق دعوة أولئك الأنبياء والرسل.
فهذا نوحٌ عليه السلام اُتهم بإشاعة من قومه بأنه ﴿ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ﴾ [المؤمنون: 24] أي يتزعم ويتأمر، ثم يُشاع عنه أنه ضال: ﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأعراف: 60]، وثالثة يُشاع عنه الجنون وقالوا: ﴿ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ﴾ [القمر: 9].
وهذا نبي الله هود عليه السلام، يُشاع عنه الطيش والخفة كما قال تعالى ﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [الأعراف: 66] ومرة يُشاع عنه أنه أُصيب في عقله: ﴿ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ﴾ [هود: 54].
ثم هذا موسى عليه السلام، يحمل دعوة ربه إلى فرعون وملائه وقومه، فيملأ فرعون سماء مصر ويسمم الأجواء من حوله بما يطلق عليه من شائعات فيقول: ﴿ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ [الشعراء: 34، 35]، ومما قال فرعون أيضًا: ﴿ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ﴾ [طه: 57]. وبرغم هذه الأراجيف والأباطيل والشائعات من حول موسى عليه السلام، فإن الحق ظهر واكتسح في يوم المبارزة مع السحرة، وأُلقي السحرة ساجدين، فبُهت فرعون أمام هذا المشهد، لكن أسعفته حيلته ودهاؤه بأن يلجأ من جديد إلى تلفيق الإشاعات، فنسب إلى موسى أنه كان قد رتّب الأمور مع السحرة، وأن سجودهم وإيمانهم محض تمثيل واتفاق، لمآرب يحققونها جميعًا فقال تعالى على لسانه:
﴿ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 123]، وقال سبحانه: ﴿ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ﴾ [طه: 71].
عباد الله: ليكن منهج كل واحد منّا عند سماعه لأي خبر قول الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6].
من أمثلة الشائعات في معركة أُحد، عندما أشاع الكفار أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قُتل أثّر ذلك في عضد كثيرٍ من المسلمين، حتى أن بعضهم ألقى السلاح وترك القتال، فتأملوا رحمكم الله تأثير الإشاعة.
ومن الشائعات: حادثة الإفك، تلك الشائعة التي طعنت في عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الشائعة التي هزّت بيت النبوة شهرًا كاملًا، بل هزّت المدينة كلها، بل هزّت المسلمين كلهم، هذا الحادث، الذي كلّف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلامًا لا تُطاق، وكلّف الأمة المسلمة كلها أن تمر بها من أشق التجارب في تاريخها الطويل، وعلّق قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقلب زوجه عائشة رضي الله عنها التي يحبها، وقلب أبي بكر الصديق وزوجه وقلب صفوان بن المعطل شهرًا كاملًا، علّقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يُطاق.
أيها الأخوة:
إننا نعيش في زمن كثُر فيه ترويج الإشاعة، ولكي لا تؤثر هذه الإشاعات على المسلم بأي شكل من الأشكال، فلابد أن يكون هناك منهج واضح محدد لكل مسلم يتعامل فيها مع الإشاعات، ونلخصها في أربعة نقاط مستنبطة من حادثة الإفك، التي رسمت منهجًا للأمة في طريقة تعاملها مع أية إشاعة إلى قيام الساعة.
النقطة الأولى: أن يُقدم المسلم حُسْن الظن بأخيه المسلم، قال الله تعالى: ﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ [النور: 12].
النقطة الثانية: أن يطلب المسلم الدليل والبرهان على أية إشاعة يسمعها، قال الله تعالى: ﴿ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ [النور: 13].
النقطة الثالثة: أن لا يتحدث بما سمعه ولا ينشره، فإن المسلمين لو لم يتكلموا بأية إشاعة، لماتت في مهدها قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 16].
النقطة الرابعة: أن يُرد الأمر إلى أُولى الأمر، ولا يشيعه بين الناس أبدًا، وهذه قاعدة عامة في كل الأخبار المهمة، والتي لها أثرها الواقعي: قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 83].
إذًا يا عباد الله، إذا حوصرت الشائعات بهذه الأمور الأربعة، فإنه يمكن أن تتفادى آثارها السيئة المترتبة عليها بإذن الله عز وجل.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، احذروا من الشائعات، فإن مسئوليتها عظيمة، في الدنيا وفي الآخرة، خصوصًا إذا كانت ضد مسلم وهو منها بريء.
هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين
د. أمير بن محمد المدري
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله:
اعلموا أن من علاماتِ الساعة أن يفشوَ الكذبَ، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعةُ حتى تظهرَ الفتنُ، ويكثرَ الكذبُ، وتتقاربَ الأسواقُ، ويتقاربَالزمانُ، ويكثُرَ الهرجُ»، قيل: وما الهرجُ؟ قال: «القتل» [أخرجه أحمد (2 / 519) عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة، " السلسلة الصحيحة " 6 / 639].
ومن علاماتِها أن يُصدَّقَ الكاذبُ وتستقبِله وسائلُ الإعلامِ ويُفسحَ لقلمهِ المجالَ، وتُفردَ له الصفحاتُ ليكتُبَ ويُنَظِّرَ ويُستشار، وفي المقابلِ يُكذَّبَ الصادقُ، ويُتهم بما ليس فيه، ولا يُسمحُ له بالكتابةِ أو الظهورِ في وسائلِ الإعلامِ ونحوِ ذلك، صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن أمامِ الدجالِ سنينُ خداعةٌ؛ يُكَذَّبُ فيها الصادقُ، ويُصدَّقُ فيها الكاذبُ، ويُخَوَّنُ فيها الأمينُ، ويُؤتمنُ فيها الخائنُ، ويَتَكلمَ فيها الرويبضةُ»، قيل: وما الرويبضةُ؟ قال: «الفويسقُ يتكلمُ في أمرِ العامةِ» [مسند أحمد: ج3/ص220 ح 13322- السلسلة الصحيحة " 4 / 508].
فاتقوا الله يا عبادَ الله، ولا يَغُرَّنَكُم باللهِ الغَرور، ولا يَفتِنكُم كثرةُ الهالكين، وكونوا مع الصادقينَ، واسمعوا إلى ما أعدَّه الله عز وجل لمن تركَ الكذبَ، قال: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وبِبَيْتٍ فِي وسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وإِنْ كَانَ مَازِحًا، وبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ» [أخرجه أبو داود في كتاب الأدب (4800) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه]، ومعنى زعيم أي: ضامنٌ وكفيلٌ، واسمعوا لقصةِ الإمامِ الزُّهريِّ التي رواها يعقوبُ بنُ شيبةَ في مسندِه، قال: دخل سليمانُ بنُ يسار على الخليفةِ الأمويِّ هشامِ بنِ عبدِ الملكِ فقال له: يا سليمانُ، الذي تولى كِبْرَه يعني في قصةِ الإفكِ من هو؟ قال: هو عبدُ الله بنُ أبي، قال: كذبتَ هو عليٌّ، قال: أميرُ المؤمنينَ أعلمُ بما يقولُ، فدخلَ الإمامُ محمدُ بنُ شهابٍ الزهريُّ: دخل فقال له الخليفةُ الأُمويُّ: يا ابنَ شهاب، من الذي تولى كِبَرُه؟ فقال الزهري: هو ابنُ أُبي، قال: كذبتَ هو عليُّ، فغضبَ الإمامُ الزهريُّ وانتفض قائلًا: أنا أكذبُ لا أبا لك؟! والله، لو نادى منادٍ من السماءِ: إنَّ الكذبَ حلالٌ ما كذبتُ، حدثني عروةُ وسعيدُ وعبدُ الله وعلقمةُ كلُّهم عن عائشةَ ك أن الذي تولى كِبْرَهُ هو عبدُ الله بنُ أبي، فقال الخليفةُ الأمويُّ: "يبدو أننا أغضبنا الشيخ".[ فتح الباري - ابن حجر - ج ٧ - الصفحة ٣٣٧ ]الله أكبر، فهذه طريقُ رسولِكم، وهذا هديُ سلفِكم الصالحُ رحمهم الله.
عباد الله: لا يخفى على عاقلٍ خطرُ الإشاعةِ في المجتمعِ، فكم من بيتٍ حُطَّمتْ سمُعَته، وكم من مُسلمٍ رَوّعتْه، وكم من أمنٍ زَعزعتْه، وكم من بريءٍ ظَلَمَتْه، وكم من عِرضٍ لطّختْه، ولذلك كانَ عَذابُ مُصَدِّر الإشاعةِ الكاذبةِ في البرزخِ ـ وهو مرحلةُ ما بعدَ الموتِ إلى قيامِ الساعةِ ـ كان عذابُه أن يقومَ عليه قائمٌ بكَلّوبٍ من حديدٍ، فيُدْخِلُ ذلك الكلّوبَ في شِدْقِه، فيُشَرْشِرُ أحدَ شِدْقَيهِ حتى يبلُغَ قَفاه، ثم يَفْعَلُ بالشدقِ الآخرِ مثلَ ذلك، ثم يعودُ للشدقِ الأولِ فإذا هو قدْ التئمَ على هيئتِه الأولى، فيُشرشِرُه إلى قفاه، ثم يعودُ إلى الآخرِ... وهكذا يُعَذَّبُ في البرزخِ عياذًا بالله من ذلك لأنَّه يَكذِبُ الكِذْبةَ فتبلغُ الآفاقَ، كما جاءَ ذلك عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كما في حديثِ البخاريِّ ومسلمٍ.
ما أكثر الإشاعات التي تطلق في أوساطنا ونسمعها هذه الأيام، إشاعات مقصودة، وإشاعات غير مقصودة، فلا يكاد يشرق شمس يوم جديد إلا وتسمع بإشاعة، من هنا أو من هناك.
أيها المسلمون:
إن تاريخ الإشاعة قديم، قدم هذا الإنسان، وقد ذُكر في كتاب الله عز وجل نماذج من ذلك منذ فجر التاريخ وبقراءة في تاريخ الأنبياء عليهم السلام وقصصهم نجد أن كُلًا منهم قد أُثير حوله الكثير من الإشاعات من قبل قومه ثم يبثونها ويتوارثونها أحيانًا. ولا شك أن تلك الإشاعات كان لها الأثر في جعل بعض المعوقات في طريق دعوة أولئك الأنبياء والرسل.
فهذا نوحٌ عليه السلام اُتهم بإشاعة من قومه بأنه ﴿ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ﴾ [المؤمنون: 24] أي يتزعم ويتأمر، ثم يُشاع عنه أنه ضال: ﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأعراف: 60]، وثالثة يُشاع عنه الجنون وقالوا: ﴿ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ﴾ [القمر: 9].
وهذا نبي الله هود عليه السلام، يُشاع عنه الطيش والخفة كما قال تعالى ﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [الأعراف: 66] ومرة يُشاع عنه أنه أُصيب في عقله: ﴿ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ﴾ [هود: 54].
ثم هذا موسى عليه السلام، يحمل دعوة ربه إلى فرعون وملائه وقومه، فيملأ فرعون سماء مصر ويسمم الأجواء من حوله بما يطلق عليه من شائعات فيقول: ﴿ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ [الشعراء: 34، 35]، ومما قال فرعون أيضًا: ﴿ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ﴾ [طه: 57]. وبرغم هذه الأراجيف والأباطيل والشائعات من حول موسى عليه السلام، فإن الحق ظهر واكتسح في يوم المبارزة مع السحرة، وأُلقي السحرة ساجدين، فبُهت فرعون أمام هذا المشهد، لكن أسعفته حيلته ودهاؤه بأن يلجأ من جديد إلى تلفيق الإشاعات، فنسب إلى موسى أنه كان قد رتّب الأمور مع السحرة، وأن سجودهم وإيمانهم محض تمثيل واتفاق، لمآرب يحققونها جميعًا فقال تعالى على لسانه:
﴿ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 123]، وقال سبحانه: ﴿ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ﴾ [طه: 71].
عباد الله: ليكن منهج كل واحد منّا عند سماعه لأي خبر قول الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6].
من أمثلة الشائعات في معركة أُحد، عندما أشاع الكفار أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قُتل أثّر ذلك في عضد كثيرٍ من المسلمين، حتى أن بعضهم ألقى السلاح وترك القتال، فتأملوا رحمكم الله تأثير الإشاعة.
ومن الشائعات: حادثة الإفك، تلك الشائعة التي طعنت في عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الشائعة التي هزّت بيت النبوة شهرًا كاملًا، بل هزّت المدينة كلها، بل هزّت المسلمين كلهم، هذا الحادث، الذي كلّف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلامًا لا تُطاق، وكلّف الأمة المسلمة كلها أن تمر بها من أشق التجارب في تاريخها الطويل، وعلّق قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقلب زوجه عائشة رضي الله عنها التي يحبها، وقلب أبي بكر الصديق وزوجه وقلب صفوان بن المعطل شهرًا كاملًا، علّقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يُطاق.
أيها الأخوة:
إننا نعيش في زمن كثُر فيه ترويج الإشاعة، ولكي لا تؤثر هذه الإشاعات على المسلم بأي شكل من الأشكال، فلابد أن يكون هناك منهج واضح محدد لكل مسلم يتعامل فيها مع الإشاعات، ونلخصها في أربعة نقاط مستنبطة من حادثة الإفك، التي رسمت منهجًا للأمة في طريقة تعاملها مع أية إشاعة إلى قيام الساعة.
النقطة الأولى: أن يُقدم المسلم حُسْن الظن بأخيه المسلم، قال الله تعالى: ﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ [النور: 12].
النقطة الثانية: أن يطلب المسلم الدليل والبرهان على أية إشاعة يسمعها، قال الله تعالى: ﴿ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ [النور: 13].
النقطة الثالثة: أن لا يتحدث بما سمعه ولا ينشره، فإن المسلمين لو لم يتكلموا بأية إشاعة، لماتت في مهدها قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 16].
النقطة الرابعة: أن يُرد الأمر إلى أُولى الأمر، ولا يشيعه بين الناس أبدًا، وهذه قاعدة عامة في كل الأخبار المهمة، والتي لها أثرها الواقعي: قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 83].
إذًا يا عباد الله، إذا حوصرت الشائعات بهذه الأمور الأربعة، فإنه يمكن أن تتفادى آثارها السيئة المترتبة عليها بإذن الله عز وجل.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، احذروا من الشائعات، فإن مسئوليتها عظيمة، في الدنيا وفي الآخرة، خصوصًا إذا كانت ضد مسلم وهو منها بريء.
هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين