عبير الليل
23-12-2018, 08:25 PM
قال الإمام الغزالي: «اعلم أن الحلم أفضل من كظم الغيظ، لأن كظم الغيظ عبارة عن التحلم، أي تكلف الحلم، ولا يحتاج إلى كظم غيظ إلا من هاج غيظه، ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة، لكن إذا تعود ذلك مدة، صار ذلك اعتيادًا فلا يهيج الغيظ، وإن هاج فلا يكون في كظمه تعب، وهو الحلم الطبيعي، وهو دلالة كمال العقل، وانكسار قوة الغضب وخضوعها للعقل، ولكن ابتداءه التحلم وكظم الغيظ تكلفًا»[1].
وإذا عرفنا الفرق بين الحلم وكظم الغيظ، فإنه يقابلهما: الغضب.
والعفو: «ترك المؤاخذة»[2].
مدح الحلم والعفو:
قال تعالى: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾[3].
وقال تعالى: ﴿ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾[4].
وقال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 133، 134][5].
وقد ذكرت الآية الكريمة «كظم الغيظ» وهو ابتداء «الحلم» فيكون مدح الحلم من باب أولى.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشجع عبدالقيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة»[6].
أمثلة من حلمه صلى الله عليه وسلم وعفوه:
نقف في هذه الفقرة أمام بعض الأمثلة من حلم النبي صلى الله عليه وسلم، فاستيعابها أمر صعب وما نشك أنه كان له في كل يوم من حياته حدث يظهر فيه حلمه.
أخرج الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كنتُ أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء.
وتوضح لنا روايات مسلم مقدار قوة تلك الجذبة:
فقد جاء في رواية له: ثم جذبه إليه جذبة، رجع نبي الله صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي.
وفي رواية أخرى: فجاذبه حتى انشق البرد، وحتى بقيت حاشيته في عتق رسول الله صلى الله عليه وسلم[7].
وإن مجرد تصور الموقف في هذه الحادثة يبين كم كان حلمه صلى الله عليه وسلم عظيمًا.
وأخرج الشيخان أيضًا، عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا»[8].
كان هذا اليوم أشد على النبي صلى الله عليه وسلم من يوم أحد.
وفي يوم أحد، أصاب المسلمين ما أصابهم، وجرح وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه، وقتل سبعون من أصحابه..
ومع هذا كان يوم الذهاب إلى الطائف أشد عليه صلى الله عليه وسلم من يوم أحد، ذلك أنه صلى الله عليه وسلم خرج من مكة منفردًا يبحث عن مكان لدعوته، بعد أن فقد كل أمل في قريش، وكان رد أهل الطائف من أسوأ ما يمكن تصوره، كذبوه، وسخروا منه، وأغروا به سفهاءهم وصبيانهم يضربونه بالحجارة حتى خرج..
وفي ظل هذا الجو النفسي الشديد، اليأس من أهل مكة، اليأس من أهل الطائف، التعب والمشقة والجراح.. ويأتيه الملك ليلبي رغبته، لو أراد أن يطبق الأخشبين على أهل مكة لفعل.
والأخشبان جبلان بينهما مكة، وإطباقهما يعني دمار مكة بمن فيها..
ولكنه صلى الله عليه وسلم يعفو، ويتجاوز آلامه وما يعتلج في نفسه من الأسى، على أمل أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله.. وذلك هو العفو.
وجاء زيد بن سعنة - قبل إسلامه - يطلب النبي صلى الله عليه وسلم بدين، فجبذ ثوبه عن منكبه وأخذ بمجامع ثيابه، وأغلظ له، ثم قال: إنكم يا بني عبدالمطلب قوم مطل.
فانتهره عمر، وشدد له في القول والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وهو كنا إلى غير هذا أحوج منك يا عمر، تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضي».
ثم قال: «لقد بقي من أجله ثلاث» وأمر عمر أن يقضيه ماله، ويزيده عشرين صاعًا لِمَا روَّعه. فكان سبب إسلامه.
يقول زيد - وهو من اليهود -: ما بقي من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في محمد إلا اثنتين لم أخبرهما: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل إلا حَلمًا. فاختبرته بهذا، فوجدته كما وُصِف[9].
كانت القضية قضية تثبُّت واختبار، ولذلك كان غليظًا في قوله: غليظًا في فعله، ثم كانت مطالبته قبل الموعد. ومع ذلك يسعه حلم النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر له بتعويض مقابل ما أصابه من قول عمر.
وذلك هو الحلم والعفو والكرم.
تلك أمثلة تجاذبها حلم النبي صلى الله عليه وسلم وعفوه، فهي بمقدار ما تحمل من بيان الحلم، فإنها أيضًا تبين عفوه صلى الله عليه وسلم وتسامحه.
وفي الواقعة التالية، نقف أمام مثال من أمثلة كثيرة على مقدار هذا العفو وسعته.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لما مات عبدالله بن أبي ابن سلول، دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه فقلت: يا رسول الله، أتصلي على ابن أبي؟! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أخِّر عني يا عمر» فلما أكثرت عليه، قال: «إني خيِّرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها».
قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرًا حتى نزلت الآيتان من براءة ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا ﴾[10].
قال: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، والله ورسوله أعلم[11].
وحتى نستطيع معرفة حجم عفوه صلى الله عليه وسلم، في هذه الواقعة ينبغي أن نسترجع إلى الذاكرة تسع سنوات خلت، ابتداء من هجرته صلى الله عليه وسلم إلى وفاة ابن سلول في أواخر السنة التاسعة.
إن عبدالله بن أبي لم يأل جهدًا طوال حياته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثارة المشكلات والتعاون مع اليهود. ومع المشركين، في الصد عن سبيل الله، وإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وما حديث الإفك بخافٍ عن أحد، وما رجوعه يوم أحد بمن تبعه بالأمر الهين، وما قوله في غزوة بني المصطلق: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ بأقل من صريح الكفر..
إنه سجل حافل مليء بالمخازي.. التي أُتْعِبَ فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ومع هذا كله يعفو عنه صلى الله عليه وسلم وينسى ذلك كله - وهي أمور لا تنسى - ويصلي عليه، ويقول وهو حريص على نجاته من النار «لو أعلم أني إن زدت على السبعين له لزدت عليها».
إنها واقعة في العفو، لا تدانيها واقعة أخرى، يحتاج إدراك أبعادها إلى أناة وروية في استعراض تسع سنوات مليئة بالأحداث التي كان فيها النفاق برئاسة ابن أبي لا يدخر وسعًا في الصدِّ عن سبيل الله..
فإذا استطعنا أن نجمع ذلك إلى بعضه، ونستشعر حجمه، عندها فقط نستطيع معرفة مقدار هذا العفو.
ثم إن هذا العفو بعد موت الرجل حيث لا يتوقع - بل لا يريد - منه جزاء ولا شكورا.
كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على نجاته من النار، راغبًا في ذلك، لأن الله تعالى أرسله رحمة للعالمين..
ولكن سبق في عدل الله تعالى أن قال: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾[12] جزاء ما اقترفت أيديهم.
ويستوقفنا في هذه الواقعة جرأة عمر رضي الله عنه، وقد تعجب هو نفسه من ذلك، حيث أخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يمنعه[13]..
ولكن حلمه الذي وسع أعداءه، ألا يسع خاصة أصحابه!
ذلك هو العفو الكبير..
وذلك هو الحلم الذي لا يدانى..
وتلكم هي الشمائل.
ما انتقم صلى الله عليه وسلم لنفسه:
والعفو لا يكون إلا بترك المؤاخذة في الحقوق، وبعدم الانتقام في الإساءات ولم يذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه انتقم لنفسه في يوم من الأيام.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها»[14].
وفي رواية: «وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط»[15].
وعنها رضي الله عنها قالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط، فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عزَّ وجلَّ»[16].
وإذا عرفنا الفرق بين الحلم وكظم الغيظ، فإنه يقابلهما: الغضب.
والعفو: «ترك المؤاخذة»[2].
مدح الحلم والعفو:
قال تعالى: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾[3].
وقال تعالى: ﴿ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾[4].
وقال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 133، 134][5].
وقد ذكرت الآية الكريمة «كظم الغيظ» وهو ابتداء «الحلم» فيكون مدح الحلم من باب أولى.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشجع عبدالقيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة»[6].
أمثلة من حلمه صلى الله عليه وسلم وعفوه:
نقف في هذه الفقرة أمام بعض الأمثلة من حلم النبي صلى الله عليه وسلم، فاستيعابها أمر صعب وما نشك أنه كان له في كل يوم من حياته حدث يظهر فيه حلمه.
أخرج الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كنتُ أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء.
وتوضح لنا روايات مسلم مقدار قوة تلك الجذبة:
فقد جاء في رواية له: ثم جذبه إليه جذبة، رجع نبي الله صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي.
وفي رواية أخرى: فجاذبه حتى انشق البرد، وحتى بقيت حاشيته في عتق رسول الله صلى الله عليه وسلم[7].
وإن مجرد تصور الموقف في هذه الحادثة يبين كم كان حلمه صلى الله عليه وسلم عظيمًا.
وأخرج الشيخان أيضًا، عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا»[8].
كان هذا اليوم أشد على النبي صلى الله عليه وسلم من يوم أحد.
وفي يوم أحد، أصاب المسلمين ما أصابهم، وجرح وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه، وقتل سبعون من أصحابه..
ومع هذا كان يوم الذهاب إلى الطائف أشد عليه صلى الله عليه وسلم من يوم أحد، ذلك أنه صلى الله عليه وسلم خرج من مكة منفردًا يبحث عن مكان لدعوته، بعد أن فقد كل أمل في قريش، وكان رد أهل الطائف من أسوأ ما يمكن تصوره، كذبوه، وسخروا منه، وأغروا به سفهاءهم وصبيانهم يضربونه بالحجارة حتى خرج..
وفي ظل هذا الجو النفسي الشديد، اليأس من أهل مكة، اليأس من أهل الطائف، التعب والمشقة والجراح.. ويأتيه الملك ليلبي رغبته، لو أراد أن يطبق الأخشبين على أهل مكة لفعل.
والأخشبان جبلان بينهما مكة، وإطباقهما يعني دمار مكة بمن فيها..
ولكنه صلى الله عليه وسلم يعفو، ويتجاوز آلامه وما يعتلج في نفسه من الأسى، على أمل أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله.. وذلك هو العفو.
وجاء زيد بن سعنة - قبل إسلامه - يطلب النبي صلى الله عليه وسلم بدين، فجبذ ثوبه عن منكبه وأخذ بمجامع ثيابه، وأغلظ له، ثم قال: إنكم يا بني عبدالمطلب قوم مطل.
فانتهره عمر، وشدد له في القول والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وهو كنا إلى غير هذا أحوج منك يا عمر، تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضي».
ثم قال: «لقد بقي من أجله ثلاث» وأمر عمر أن يقضيه ماله، ويزيده عشرين صاعًا لِمَا روَّعه. فكان سبب إسلامه.
يقول زيد - وهو من اليهود -: ما بقي من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في محمد إلا اثنتين لم أخبرهما: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل إلا حَلمًا. فاختبرته بهذا، فوجدته كما وُصِف[9].
كانت القضية قضية تثبُّت واختبار، ولذلك كان غليظًا في قوله: غليظًا في فعله، ثم كانت مطالبته قبل الموعد. ومع ذلك يسعه حلم النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر له بتعويض مقابل ما أصابه من قول عمر.
وذلك هو الحلم والعفو والكرم.
تلك أمثلة تجاذبها حلم النبي صلى الله عليه وسلم وعفوه، فهي بمقدار ما تحمل من بيان الحلم، فإنها أيضًا تبين عفوه صلى الله عليه وسلم وتسامحه.
وفي الواقعة التالية، نقف أمام مثال من أمثلة كثيرة على مقدار هذا العفو وسعته.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لما مات عبدالله بن أبي ابن سلول، دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه فقلت: يا رسول الله، أتصلي على ابن أبي؟! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أخِّر عني يا عمر» فلما أكثرت عليه، قال: «إني خيِّرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها».
قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرًا حتى نزلت الآيتان من براءة ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا ﴾[10].
قال: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، والله ورسوله أعلم[11].
وحتى نستطيع معرفة حجم عفوه صلى الله عليه وسلم، في هذه الواقعة ينبغي أن نسترجع إلى الذاكرة تسع سنوات خلت، ابتداء من هجرته صلى الله عليه وسلم إلى وفاة ابن سلول في أواخر السنة التاسعة.
إن عبدالله بن أبي لم يأل جهدًا طوال حياته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثارة المشكلات والتعاون مع اليهود. ومع المشركين، في الصد عن سبيل الله، وإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وما حديث الإفك بخافٍ عن أحد، وما رجوعه يوم أحد بمن تبعه بالأمر الهين، وما قوله في غزوة بني المصطلق: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ بأقل من صريح الكفر..
إنه سجل حافل مليء بالمخازي.. التي أُتْعِبَ فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ومع هذا كله يعفو عنه صلى الله عليه وسلم وينسى ذلك كله - وهي أمور لا تنسى - ويصلي عليه، ويقول وهو حريص على نجاته من النار «لو أعلم أني إن زدت على السبعين له لزدت عليها».
إنها واقعة في العفو، لا تدانيها واقعة أخرى، يحتاج إدراك أبعادها إلى أناة وروية في استعراض تسع سنوات مليئة بالأحداث التي كان فيها النفاق برئاسة ابن أبي لا يدخر وسعًا في الصدِّ عن سبيل الله..
فإذا استطعنا أن نجمع ذلك إلى بعضه، ونستشعر حجمه، عندها فقط نستطيع معرفة مقدار هذا العفو.
ثم إن هذا العفو بعد موت الرجل حيث لا يتوقع - بل لا يريد - منه جزاء ولا شكورا.
كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على نجاته من النار، راغبًا في ذلك، لأن الله تعالى أرسله رحمة للعالمين..
ولكن سبق في عدل الله تعالى أن قال: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾[12] جزاء ما اقترفت أيديهم.
ويستوقفنا في هذه الواقعة جرأة عمر رضي الله عنه، وقد تعجب هو نفسه من ذلك، حيث أخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يمنعه[13]..
ولكن حلمه الذي وسع أعداءه، ألا يسع خاصة أصحابه!
ذلك هو العفو الكبير..
وذلك هو الحلم الذي لا يدانى..
وتلكم هي الشمائل.
ما انتقم صلى الله عليه وسلم لنفسه:
والعفو لا يكون إلا بترك المؤاخذة في الحقوق، وبعدم الانتقام في الإساءات ولم يذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه انتقم لنفسه في يوم من الأيام.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها»[14].
وفي رواية: «وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط»[15].
وعنها رضي الله عنها قالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط، فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عزَّ وجلَّ»[16].