فسبحان من أنزل أعظم كتاب في أعظمِ شهر في أعظم ليلة هي خير من ألف شهر، ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 1 - 3]، ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185].
وعد الله بحفظه من عبث العابثين، وتحريف الغالين، ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9] ، وإن من أسباب حفظه في القلوب والمصاحف.. استدامة تلاوته، والمواظبة على دراسته، مع القيام بآدابه وشروطه، والمحافظة على ما فيه من الأعمال الباطنة، والآداب الظاهرة.
وإنما أراد الله من العباد بإنزال كتابه أن يأتمروا بأمره، وينتهوا بنهيه، ويصدِّقوا أخباره، ويوقنوا بما أخبر به من أمور الغيب، ويتخذوا من قصص الأمم الماضية المواعظ والعبر، لا ليتخذوه ظهريا، فيؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض، بل المقصود العمل به وفهم مراميه، ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24].
ولما كان سلفنا الصالح يعملون بالقرآن ويقومون به علما وعملا، يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويقولون ءامنا به كل من عند ربنا أضحوا سادة العالم، ومنار الهداية للحيارى، فقادوا الناس به إلى ربهم وجنته.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكر الفتن أنه قيل له: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: ((كتاب ربكم وسنة نبيكم)).
فاعتصموا - عباد الله - بالكتاب والسنة، وعليكم بما فيهما من الأوامر والنواهي، ولا تردوا كلام الله لتأويل المتأولين واتباعا لزيغ الزائغين.
فإذا قال الله سبحانه في النهي: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ ﴾ [المائدة: 51] ، نقول سمعنا وأطعنا، وعلمنا أن ولاية غير الله مثله كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، قال سبحانه: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 41].
وإذا قال سبحانه في الأمر: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ [المائدة: 55]، نقول سمعنا وأطعنا.
وإذا قال سبحانه في الإخبار: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 7، 8]، قلنا اللهم آمنا وأيقنا وصدقنا، ولا مبدل لكلمات الله
عباد الله: يقول الكريم سبحانه: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1].
القرآن منهج حياة، ودستور ونظام، شريعة الله إلى أهل الأرض، قضى ألا يحتكموا إلا إليه، وألا يؤمنوا إلا بما وافقه، إن الحاكمية لله وحده، فهو الحكم العدل، ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50] .
عباد الله، يا مسلمون، يا أمم الأرض، يا من ينشدون السعادة ويرجون النجاة، كتاب الله بين أيدينا كلامه ونوره ورحمته شفاؤه، من أراد الهدى فبالقرآن: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9]، من أراد الغنى فبالقرآن قال صلى الله عليه وسلم:((أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل؟!)). وهذا ـ والله ـ هو الربح والغنى عباد الله.
ومن أراد الشفاعة فبالقرآن قال صلى الله عليه وسلم: ((يأتي القرآن شفيعا لأصحابه، تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهم)).
ومن أراد مضاعفة الأجور فبالقرآن قال صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حرفا من كتاب الله كان له حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)).
ومن أراد الشفاء ففي القرآن قال سبحانه: ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [فصلت: 44].
وبالجملة من أراد الخير كله ففي التمسك والعمل بالقرآن، ومن أراد الشر كله فبالإعراض عنه، ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا* قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [طه: 123 - 126].
فيا من يشتكون من عدم استقرار البيوت عليكم بالقرآن، ويا من يشتكون من القلق والوساوس عليكم بالقرآن، وما من يشتكون من ضعف الإيمان عليكم بالقرآن.
عباد الله، أحيوا بالقرآن ليلكم ونهاركم، استعذبوا ألفاظه، وتأملوا إتقانه. ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ....
الحمد لله الذي زين أولياءه بزينة الإيمان، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.
وبعد:
فيا عباد الله، قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: ((الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها)).
عباد الله، احذروا من هجر القرآن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يأتي يوم القيامة يحاج قومه كما أخبر الله تعالى بقوله: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾[الفرقان: 30].
وإن هجر القرآن يكون هجر تلاوة، وهجر تدبر وتفكر، وهجر سماع، وهجر عمل، وهجر تحكيم.
عباد الله، إن أمامكم العمر كله، فاغتنموا الأوقات، وإياكم والغرور بالدنيا فإنكم تاركوها، واحرصوا على تعليم من ولاكم الله أمرهم، فعلموهم القرآن حتى يحمدوكم عند الكبر، ويكونوا صالحين فيدعوا لكم عند زوال الأقدام عن الدنيا.
يَا مُنْزِلَ الوَحْيِ الْمُبِينِ تَفَضُّلاً
أَدْعُوكَ فَاقْبَلْ يَا كَرِيمُ دُعَانا
اجْعِلْ كِتَابَكَ بَيْنَنَا نُوراً لنا
أَصْلِحْ بِهِ مَا سَاءَ مِنْ دُنْيَانا
واحْفَظْ بِهِ الأوطانَ، واجمعْ شملَنا
فَالشَّمْلُ مُزِّقَ، وَالْهَوَى أَعْيَانا
وانصُرْ بِهِ قَوْماً تَسِيلُ دِمَاؤهُمْ
فِي الشام.. في بَغْدادَ.. في لُبْنَانا
عباد الله .. ألا صلوا وسلموا ...
اللهم وفقنا لما فيه صلاح نفوسنا، وأعنا على طاعتك وحسن عبادتك، وارزقنا تلاوة كتابك على الوجه الذي يرضيك عنا، واجعلنا ممن يعمل بمحكمه، ويؤمن بمتشابهه، وممن يتمسك به عند اشتباه الأمور وتغاير الأحوال.
اللهم أعذنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهم اجعلنا ممن رفع بالقرآن رأسه.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم وفق ولاة أمرنا للعمل بكتابك وسنة نبيك، اللهم سدد آراءهم، واهدهم سبل السلام، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم خذ بنواصيهم إلى البر والتقوى.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، في فلسطين والعراق وسوريا، اللهم سدد سهامهم وقو عزائمهم وثبت أقدامهم، ومكن لهم في الأرض يا رب العالمين، واجعل أعداءهم غنيمة لهم.
ربنا اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا .. واعنا على برهم أحياءاً وأمواتاً ..
ربنا ظلمنا انفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا
سامي بن عيضه المالكي