دوما كانت الشدائد كاشفة عن معادن الناس,
تبين حقيقتها, وتجلي كامن صفاتها ,
فقد تعرف إنسانا لفترات طويلة , ولا يبين لك منه صفاته الحقة ,
فإذا مرت الشدائد ظهرت صفاته وبانت علاماته , فلكأنما
تكشف بعد اختفاء وتعرى بعد غطاء !
والشدائد تقرب المؤمنين إلى ربهم , وتباعد المزورين والكاذبين عنه سبحانه ,
فالمؤمن يسارع توبة واستغفارا , وإنابة وإصلاحا , وردا للحقوق ,
وتبتلا لله سبحانه رجاء تخفيف الشدة وإذهاب الغمة , والكاذب يسارع
إلى الدنيا يطلب منها فك الشدة , ويتعلق بالأسباب , وينسى ربه سبحانه ,
فلا تزيده الشدة إلا نفورا , قال سبحانه :
"وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ
وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ
ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ " (الحج:11)
والشدائد منقيات , يقول صل الله عليه وسلم "
ما يَزالُ البلاءُ بالمؤمِنِ والمؤمنةِ ، في نفسِهِ وولدِهِ ومالِهِ ،
حتى يلْقَى اللهَ وما عليْهِ خطيئةٌ" صححه الألباني
والله سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبا , فيسلط الشدائد على المؤمنين
لتفتن صفاتهم , وتنقي حقيقتهم , فيذهب الخبث , ويبقى الطيب ,
فيلقون الله طيبين , ومن وافته منيته من الموحدين قبل أن يتم توبته ,
تمت تنقيته قبل دخول الجنة , فيدخلون الجنة بعد التنقية والتصفية
فيقال لهم عندئذ : " سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ " (الزمر:73)
وكما أن الشدائد كاشفة لمقدار الخير في الدين , فإنها كاشفة
في أمور الدنيا , فالشدة تظهر الصديق الحق , وتبين فضيلة المرء ,
فكم من مدع لفضيلة إذا جاءت الشدائد أسفر عن وجه جبان قبيح ,
وأناني خسيس , وكم من كريم قليل الحديث عن نفسه , تراه
في الشدائد أسدا هصورا , ومروئيا عظيما , مؤثرا الخير
على نفسه وباذلا للمكرمات حتى لو كان حاله ضيقا ..
حتى إني وددت أن لا تكون صداقة إلا بعد شدة واختبار ,
ولا أخوة إلا بعد عشرة واختيار , حتى لا نسمع بالصدمات النفسية
في الأصدقاء والإخوان , تلك التي نسمع عنها كل يوم !
والشدائد أيضا كاشفة لقيمة المرء أمام نفسه , فيعلم من نفسه
كم هو صادق مع نفسه ومع ربه , وهل هو مدع لا يلبث أن ينكسر
في المشكلات وينقلب على عقبيه فيها أم أنه صادق مع نفسه
واضح معها , ويعلم قدر ثقته في مبادئه وقيمه , ويعلم مكامن الخلل
عنده وأماكن الثغرات في شخصيته .والشدائد تقوي النفس ,
وتقوم الظهر , وتثبته , وتجعله صلبا في مواجهة تقلبات الدنيا ,
فإن صبر المرء فيها وتوكل على الله ربه , وأخذ بالاسباب ,
وداوم وصلا بالرحمن الرحيم ذكرا ودعاء والتجاء ,
فما يلبث أن يعود أقوى وأرسخ .
قال سبحانه : "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ,
فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ
وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ"
(ال عمران:173-174)