عرض مشاركة واحدة
#1  
قديم 02-04-2020, 10:18 PM
رفيق الالم غير متواجد حالياً
 
 عضويتي » 1319
 اشراقتي » Jul 2019
 كنت هنا » 27-04-2024 (03:56 AM)
آبدآعاتي » 532,608[ + ]
سَنابِل الإبْداع » [ + ]
هواياتي » الشعر والخواطر
موطني » دولتي الحبيبه Egypt
جنسي  »
مُتنفسي هنا »  صوري  مُتنفسي هنا
 
مزاجي:
 
افتراضي قصة الحضارة _الكتاب الأول: الشرق الأدنى_الباب التاسع: بابل _ الفصل التاسع: الفلاسفة



..


الدين والفلسفة - أيوب البابليين - كحيلث البابليين - رجل يقاوم الكهنة

إن الأمم تولد رواقية وتموت أبيقورية، يقوم الدين إلى جانب مهدها (كما يقول المثل القديم)، وتصحبها الفلسفة إلى قبرها. ففي بداية الثقافات كلها ترى عقيدة دينية قوية تخفي عن أعين القوم كنه الأشياء وترقق من طبائعها، وتبث في قلوبهم من الشجاعة ما يستطيعون به أن يتحملوا الآلام ويقاسوا الصعاب وهم صابرون، تقف الآلهة إلى جانبهم في كل خطوة يخطونها، ولا تتركهم يهلكون إلا حين يهلكون؛ وحتى في هذه الحال يحملهم إيمانهم القوى على الاعتقاد بأن خطاياهم هي التي أغضبت الآلهة فانتقموا منهم. ذلك أن ما يصيب الناس من شر لا يفقدهم إيمانهم، بل يقويه في قلوبهم؛ فإذا جاء النصر، وإذا نسوا الحرب لطول ما ألفوه من الأمن والسلام، ازدادت ثروتهم؛ واستبدلت الطبقات المسيطرة بحياة الجسم حياة الحواس والعقل، وحلّت اللذة والراحة محل الكدح والمتاعب؛ وأضعف العلم الدين بينما يضعف التفكير والدعة ما في الناس من رجولة وصبر على المكاره. وأخيراً يبدأ الناس يرتابون في آلهتهم، ويندبون مأساة المعرفة، ويلجئون إلى كل لذة عاجلة زائلة يعتصمون بها من سوء مصيرهم. فهم في البداية كأخيل، وفي النهاية كأبيقور؛ وبعد داود يأتي أيوب، وبعد أيوب يأتي سفر الجامعة.

وإذ كنا لا نستدل على تفكير البابليين إلا من أيام ملوكهم المتأخرين، فإن من الطبيعي أن نجد هذا التفكير تسري فيه حكمة الكلالة الصادرة من أفواه الفلاسفة المتعبين الذين يستمتعون بالملاذ كما يستمتع بها الإنجليز. فترى على أحد الألواح مثلاً بلطا- أرتوا يشكو من أنه التزم أوامر الآلهة أشد مما التزمها جميع الناس. ولكنه مع هذا أصابته طائفة من البلايا، ففقد أبويه، وخسر ماله، وحتى القليل الذي بقي له منه سرق في الطريق. ويجيبه أصدقاؤه- كما يجيب أيوب أصدقاؤه- بأن ما حل به من بلاء ليس إلا عقابا له على خطايا خافية عنه- وربما كان جزاء له على صلفه العاتي المنبعث من طول عهده بالرخاء، وهو أشد ما يثير غضب الآلهة وحسدها. ويؤكدون له أن الشر ليس إلا خيراً مقنعاً، وأنه جزء من السنن الإلهية ينظر إليه نظرة جد ضيقة بعقله الضعيف، وهو غافل عن هذه السنن في مجموعها، وأنه إذا ما استمسك بإيمانه وشجاعته، فإنه سيجزى في آخر الأمر خير الجزاء؛ وسينال ما هو خير من هذا وهو أن أعداءه سيلقون عقابهم. وينادى بلطا- أرتوا الآلهة يطلب إليها العون- ثم تختتم القطعة الباقية من اللوح ختاماً مفاجئاً (162).
وتعرض قصيدة أخرى وجدت ضمن بقايا مجموعة الآداب البابلية التي خلفها أشور بانيبال هذه المشكلة بعينها عرضا أدق حين يتحدث تابي- أتول- أنليل، وهو كما يلوح أحد كحام نبور، عن نفسه فيقول في وصف ما لاقاه من الصعاب :


(طمس على مقلتي كأنما أغلقهما) بقفل؛(ووقر أذني) كأذني الشخص الأصم.وكنت ملكاً فصرت عبداً؛وأساء رفاقـ(ى) معاملتي كأن بي جنة.ابعث إليَّ العون ونجني من الوهدة التي احتفرت (لي)!...بالنهار حسرات عميقة، وبالليل بكاء؛وطول الشهر- صراخ؛ وطول العام- شقاء...

ثم يواصل قوله فيخبرنا كيف كان طول حياته إنساناً تقياً، وكيف كان آخر شخص في العالم يصح أن يكون مصيره هذا المصير القاسي:



كأني لم أخصص للإله نصيبه على الدوام؛ولم أبتهل إلى الآلهة وقت الطعام؛ولم أعنُ بوجهي وآتي بخراجي؛وكأني إنسان لم يكن التضرع والدعاء دائمين على لسانه.لقد علّمت بلدي الاحتفاظ باسم الإله؛وعودت شعبي أن يُعظم اسم الإلهة...وكنت أظن أن هذه الأشياء مما يسرّ أي إله.

ولما أصابه المرض على الرغم من كل هذا التقى الشكلي، أخذ يفكر في استحالة الوقوف على تدبير الآلهة، وفي تقلبات شئون البشر.



من ذا الذي يدرك إرادة آلهة السماء!إن تصاريف الإله كلها غموض- فمن ذا الذي يدركها؟...إن من كان بالأمس حياً أصبح اليوم ميتاً،وما هي إلا لحظة حتى تتقسمه الغموم، ويتحطم قلبه فجأة،فهو يغني ويلعب لحظة؛وما هي إلا طرفة عين حتى يندب حظه كالمحزون...لقد لفّني الهم كأنه شبكة،تتطلع عيناي ولكنهما لا تبصران...،وأذناي مفتوحتان ولكنهما لا تسمعان،...وقد سقط الدنس على عورتي،وهاجم الغدد التي في أحشائي...وأظلم من الموت جسمي كله...يطاردني المطارد طوال النهار؛ولا يترك لي بالليل لحظة أتنفس فيها...لقد تفككت أطرافي، فلم تعد تمشي مؤتلفة،وأقضى الليل بين أقذاري كما يقضيه الثور؛وأختلط ببرازي كما يختلط الضأن.ثم يعود فيجهر بإيمانه كما فعل أيوب فيقول:ولكن أرى اليوم الذي تجف فيه دموعي،اليوم الذي يدركني فيه لطف الأرواح الواقية،ويومئذ تكون الآلهة رحيمة بي.

ثم تنقلب الأحوال كلها سعادة وهناءة، فيظهر أحد الأرواح الطيبة، ويشفى تابي من جميع أمراضه؛ وتهب عاصفة هوجاء فتطرد شياطين المرض كلها من جسمه. ويسبح بحمد مردك، ويقرب له القرابين النفيسة، ويهيب بالناس جميعاً ألا يقنطوا من رحمة الآلهة.

وليس بين هذا وبين ما ورد في سفر أيوب إلا خطورة واحدة؛ كذلك نرى في الآداب البابلية أمثلة سابقة لا يمكن الخطأ فيها مما ورد في سِفر الجامعة من الكتاب المقدس. من ذلك ما ورد في ملحمة جلجميش من نصح الإله سبيتو لهذا البطل بأن يكف عن شوقه إلى الحياة بعد الموت، وأن يأكل ويشرب ويستمتع على ظهر الأرض:


أي جلجميش، لم هذا الجري في جميع الجهات؟إن الحياة التي تسعى لها لن تجدها أبداً.إن الآلهة حين خلقت بني الإنسان قدّرت الموت على بني الإنسان؛واحتفظت بالحياة في أيديها.أي جلجميش، املأ بطنك؛وكن مرحاً بالنهار وبالليل؛...بالنهار وبالليل كن مبتهجاً راضياً!وطهر ثيابك.واغسل رأسك؛ اغتسل بالماء!وألق بالك إلى الصغير الذي يمسك بيدك؛واستمتع بالزوجة التي تضمها إلى صدرك .

وتستمتع في لوحة أخرى إلى نغمة أشد من هذه حزنا تختتم بالكفر والتجديف. ذلك أن جبارو وهو عند البابليين كأسبيديس عند اليونان، يسأل إنساناً يكبره أسئلة ملؤها الشك فيقول:



أيها العاقل الحكيم، يا صاحب الذكاء، تأوه من صميم قلبك!إن قلب الإله بعيد بُعد أطباق السماوات الداخلية،والحكمة صعبة، والناس لا يفهمونها.ويجيبه الشيخ متشائماً تشاؤم عاموس وإشعيا:استمع، يا صديقي، وافهم أفكاري.إن الناس يمجدون عمل الرجل العظيم الذي يبرع في القتل،ويحقرون الرجل الفقير الذي يرتكب ذنباً.ويبررون أعمال الرجل الآثم الذي يقترف أشنع الأخطاء،ويردون الرجل العادل الذي يسعى لما يريده الله.وهم يسلطون القوي ليغتال طعام الضعيف؛ويقوون القوي؛ويهلكون الرجل الضعيف، ويطرده الرجل الغني.

وينصح جبارو مع هذا أن يفعل ما تريده الآلهة. ولكن جبارو يقطع صلاته بها وبالكهنة الذين ينصرون على الدوام أكبر الناس ثراء:



إنهم لم ينقطعوا عن عرض الأكاذيب والأضاليل.يقولون باللفظ الشريف ما كان في صالح الرجل الغني.هل نقصت ثروته إنهم يبادرون إلى معونته.وهم يسيئون معاملة الضعيف كأنه لص،وهم يهلكونهم في خلجة عين،ويطفئونه كما يطفئون اللهب.

وليس لنا مع ذلك أن نبالغ في شأن ما نجده عند البابليين من مزاج سوداوي، وما من شك في أن الناس كانوا يصغون في رضا ومحبة إلى ما يقوله كهانهم، ويزدحمون في الهياكل يطلبون رضاء الآلهة. لكن الذي يدهشنا بحق هو طول إيمانهم بدينهم الذي لا يعرض عليهم إلا القليل من أسباب المواساة والسلوى؛ وهل ثمة شيء من هذين في قول الكهنة أن لا شيء يمكن أن يعرف إلا بالوحي الإلهي؛ وأن هذا الوحي لا يصل إلى الناس إلا عن طريقهم هم؟ ويحدثنا الفصل الأخير من هذا الوحي عن هبوط الروح الميتة صالحة كانت أو طالحة إلى أرالو أي الجحيم لتبقى فيها أبد الدهر في ظلام وعذاب مقيم. فلا عجب والحالة هذه إذا انصرف البابليون للقصف والمرح في الوقت الذي جن فيه نبوخد نصر بعد أن ملك كل شيء ولم يدرك أي شيء، وأمسى يرهب كل شيء.

الفصل العَاشِر: قبرية


تحدثنا الروايات المتواترة كما يحدثنا سفر دانيال- الذي لم تؤيده أية وثيقة معروفة- أن نبوخد نصر بعد أن حكم زمنا طويلا، حالفه فيه النصر والرخاء على الدوام، وبعد أن جمل مدينته بما شقه فيها من الطرق وما شاده من القصور، وبعد أن بنى للآلهة أربعة وخمسين هيكلا، بعد أن فعل هذا كله انتابته نوبة غريبة من الجنون، فظن نفسه حيوانا ومشى على أربع، واقتات بالكلأ(167). ويختفي اسمه أربع سنين كاملة من التاريخ ومن سجلات بابل الحكومية(168). ثم يعود فيظهر لحظة قصيرة ثم ينتقل إلى الدار الآخرة في عام 562 ق.م. ولا تكاد تمضي على وفاته ثلاثون عاما حتى تتصدع إمبراطوريته وتتمزق شر ممزق. وحكم بعده نابونيدس وجلس على العرش سبعة عشر عاما آثر فيها أعمال الحفر على مهام الحكم، وصرف وقته وجهده في التنقيب عن عاديات سومر وترك مملكته تتداعى(169). فاضطربت أحوال الجيش، وانهمك رجال الأعمال في شئون المال العليا الدولية، فنسوا حبهم لبلادهم، وغفل الناس عن فنون الحرب لاشتغالهم بشئون التجارة وانغماسهم في الملذات. واغتصب الكهنة سلطان الملوك شيئا فشيئا، وملأوا خزائنهم بالأموال التي أغرت الدول الأجنبية بغزو البلاد وفتحها. ولما أن وقف قورش وجيوش الفرس النظامية المدربة على أبواب بابل رضيت الطائفة المعادية للكهنة من البابليين ان تفتح له هذه الأبواب، ورضيت بسيطرته المستنيرة(170).
وحكم الفرس بابل قرنين من الزمان كانت في خلالهما شطرا من أعظم إمبراطورية عرفها التاريخ حتى ذلك الوقت؛ ثم اقبل الاسكندر بجبروته وافتتح المدينة دون أن يجد منها أية مقاومة، وظل يشرب الخمر في قصر نبوخد نصر حتى مات(171). ولم تفد البشرية من الحضارة البابلية ما أفادته من حضارة المصريين، ولم يكن فيها من التنوع والعمق ما في حضارة الهند، كما لم يكن فيها من الدقة والنضوج ما في حضارة الصين. على أن بابل هي التي أنشأت ذلك القصص الساحر الجميل الذي اصبح بفضل براعة اليهود الأدبية الفنية جزءاً لا يتجزأ من قصص أوربا الديني. ومن بابل لا من مصر جاء اليونان الجوالون إلى دويلات مدنهم بالقواعد الأساسية لعلوم الرياضة، والفلك، والطب، والنحو، وفقه اللغة، وعلم الآثار، والتاريخ، والفلسفة. ومن دويلات المدن اليونانية انتقلت هذه العلوم إلى رومة ومنها إلى الأوربيين والأمريكيين. وليست الأسماء التي وضعها اليونان للمعادن، وأبراج النجوم، والموازين والمقاييس، وللآلات الموسيقية، ولكثير من العقاقير، ليست هذه كلها إلا تراجم لأسمائها البابلية، بل إنها في بعض الأحيان لا تعدو أن تكون بديلا لحروفها من الأحرف البابلية إلى اليونانية(172). وبينما استمد فن العمارة اليونانية أشكاله وإلهامه من مصر وكريت، فان العمارة البابلية هي التي أوحت عن طريق الزاجورات بقباب المساجد الإسلامية، وبالمنارات والأبراج في العصر الوسيط، وبطراز المباني المرتدة في أمريكا في هذه الأيام. وأضحت قوانين حمورابي تراثا للمجتمعات القديمة كلها لا يقل في شأنه عما ورثه العالم من روما من نظام الحكم وأساليبه. ولقد انتقلت حضارة ارض النهرين من مهدها وأضحت عنصرا من التراث الثقافي للجنس البشري بفضل سلسلة طويلة من الأحداث التاريخية الخطيرة. فقد فتحت أشور بابل واستحوذت على تراث هذه المدينة القديمة،
ونشرته في جميع أنحاء إمبراطوريتها الواسعة؛ وتلا ذلك اسر اليهود الطويل وما كان للحياة وللأفكار البابلية فيهم من أثر عظيم؛ وأعقب هذا وذاك الفتحان الفارسي واليوناني اللذان فتحا جميع طرق التجارة والمواصلات بين بابل والمدن الناشئة في أيونيا وآسية الصغرى واليونان فتحا لم يشهد العالم من قبل له نظيرا في كماله وحريته. إن شيئا ما لا يضيع من العالم آخر الأمر، بل إن كل حادثة تترك فيه أثرها خالدا إلى ابد الدهر، خيرا كان ذلك الأثر أو شرا.




 توقيع : رفيق الالم













رد مع اقتباس