عرض مشاركة واحدة
#1  
قديم 06-06-2020, 11:08 PM
حسن الوائلي متواجد حالياً
 
 عضويتي » 68
 اشراقتي » Feb 2017
 كنت هنا » يوم أمس (01:25 PM)
آبدآعاتي » 1,541,422[ + ]
سَنابِل الإبْداع » [ + ]
هواياتي » القراءة وكتابة الخواطر
موطني » دولتي الحبيبه Iraq
جنسي  »
مُتنفسي هنا »  صوري  مُتنفسي هنا
 
مزاجي:
 
الإحسان .. أخلاق سامية



الإحسان:

في القرآن الكريم: نجد قول الله سبحانه وتعالى: (وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [التغابن: 16]. كما نقرأ في القرآن الكريم دعوة للإحسان ولو على حساب النفس وفي وقت الحاجة والشدَّة، فلقد أثنى الله على هؤلاء، فقال سبحانه وتعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9]. وصَرَّح القرآن الكريم بأن الخوف من الفقر شعور يَبُثُّه الشيطان في النفس الإنسانية؛ ليمنعها من الإنفاق، بينما الحقيقة التي يُقَرِّرها الله عز وجل، أن الإنفاق يعود على الإنسان بالمغفرة والثواب في الحياة الآخرة، كما يعود بمزيد من الفضل والغنى في الحياة الدنيا؛ قال سبحانه وتعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 268].
وحين تحدثنا عن الأخلاق الأساسيَّة ذكرنا قول الله سبحانه وتعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) [الإسراء: 26]. أمَّا في مجال الحديث عن الأخلاق السامية فإنَّ القرآن الكريم يأتي بهذا التوسُّع في قوله عز وجل: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النساء: 36]. فهنا اتسعت دائرة الإحسان فتجاوزت دائرة الحقوق، كما شملت طوائف أخرى غير الأقارب، والمساكين، وابن السبيل (وهو المسافر الذي فَقَد ماله)، لقد دخلت في دائرة الإحسان طائفة الجيران، وخاصَّةً ذوي القربي منهم، حتى إذا كان الجار يعتنق دينًا آخر، فهذا هو "الجار الجُنُب"، وطائفة "الصاحب بالجنب"؛ أي: الصديق الملازم، مثل الصاحب الأثير، أو التلميذ، أو رفيق السفر، ثُمَّ تأتي طائفةٌ أخرى وهي طائفة "ملك اليمين"، ويقوم مقامهم -في وقتنا هذا- الخدم والبستاني والسائق وعامل النظافة.. وما إلى ذلك.
وفي توصيَّات النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ما يُفَصِّل هذه التعاليم القرآنيَّة؛ ففي مسألة الجار -مثلًا- قال رجلٌ: يا رسول الله؛ إنَّ فلانة يُذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنَّها تُؤذي جيرانها بلسانها. قال: "هِيَ فِي النَّارِ". قال: يا رسول الله؛ فإنَّ فلانة يُذكر من قلَّة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإنَّها تصدَّق بِالأَثْوَارِ من الأَقِطِ، ولا تُؤذي جيرانها بلسانها قال: "هِيَ فِي الْجَنَّةِ"[1].
بل لقد نَفَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الذي لا يطمئن إليه جاره، فضلًا عن الذي يُؤذيه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وَاللهِ! لا يُؤْمِنُ، وَاللهِ! لا يُؤْمِنُ، وَاللهِ! لا يُؤْمِنُ". قيل: مَنْ يا رسول الله؟ قال: "الَّذِي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ"[2].
وحين نزل المسيح عليه السلام -كما يروي إنجيل لوقا- لدى بيت زكا، قال الرجل: "أنا يا ربُّ أُعطي نصف أموالي للمساكين، وإن كنت قد وشيت بأحدٍ أَرُدُّ أربعة أضعاف. فقال له يسوع: اليوم حصل خلاصٌ لهذا البيت"[3].
وجاء في وصايا المسيح عليه السلام: "وإن أقرضتم الذين ترجون أن تستردُّوا منهم، فأيُّ فضلٍ لكم؟! فإنَّ الخطاة -أيضًا- يقرضون الخطاة؛ لكي يستردوا منهم المثل. بل أَحِبُّوا أعداءكم وأحسنوا، وأقرضوا وأنتم لا ترجون شيئًا؛ فيكون أجركم عظيمًا، وتكونوا بَنِي الْعَلِيِّ؛ فإنَّه منعمٌ على غير الشاكرين والأشرار"[4].
وقد وُجد خُلق الإحسان في كثيرٍ من الأمم والحضارات القديمة؛ فلقد كان الإحسان والعطاء من القيم التي وُجدت عند قدماء المصريِّين، فمَّما وصل إلينا من ذلك التراث قصيدة وعظيَّة فيها:
"إنَّ الفقر بيد الله
لخَيْرٌ من الغنى في المخازن؛
وإنَّ الرغيف والقلب مبتهج
لخَيْرٌ من الغنى مع الشقاء"[5].
ومن ملامح خيريَّة الفرد التي حدَّدها كونفوشيوس أن يكون كريمًا، وبهذا فسوف يكون صالحًا لدرجةٍ تُؤَهِّله للسيادة على الآخرين[6].
وكذلك كان الهنود يتَّصفون بسخاءٍ لا يقف عند حدٍّ، وهم -على حدِّ تعبير ول ديورانت- أكرم أهل الأرض للضيف، فحتى أعداؤهم لا يسعهم إلَّا الاعتراف بحسن مجاملتهم[7].
واحتلَّ خُلُق الإحسان إلى الوالدين -بشكلٍ خاصٍّ- مكانةً ذات قيمةٍ في التاريخ الأخلاقي للإنسانيَّة؛ ففي الهند القديمة كانت الصورة العامَّة التي نستمدُّها من أسفار الفيدا ومن الملاحم، تدلُّ على مستوًى رفيعٍ في العلاقات بين الجنسين وفي حياة الأسرة، ولقد كان الأبناء يَعُولون آباءهم وأمَّهاتهم في شيخوختهم بغير أدنى تردُّدٍ في هذا الواجب؛ بل لقد كان الأبناء يعبدون آباءهم وأسلافهم[8].
وعند كونفوشيوس كانت إطاعة الأبناءِ آباءهم والزوجة زوجها هي الضمانات التي تمنع المجتمع من الفوضى، ولا يتفوَّق شيءٌ على هذه الطاعة إلَّا "القانون الأخلاقي"، وفي هذا قَرَّر كونفوشيوس أنَّ في وسع الابن وهو في خدمة أبويه أن يُجادلهما بلطف؛ فإذا رأى أنَّهما لا يميلان إلى اتِّباع نصيحته زاد احترامه لهما، من غير أن يتخلَّى عن قصده؛ فإذا أمر الوالد ابنه أمرًا خطأ وجب عليه أن يُقاومه[9]؛ ولذلك كان الصينيُّ مثلًا يُحتذى في طاعة الأبناء للآباء وإخلاصهم ووفائهم لهم، وفي احترام الصغار للكبار وعنايتهم بهم عن رضًا واختيار[10].
وجاء في الوصايا من الكتاب المقدَّس: "أكْرِم أباك وأمك". وجاء في رسالة القديس بولس إلى أهل أفسس: "أيُّها الأولاد أطيعوا والديكم في الربِّ لأنَّ هذا حق. أكرم أباك وأمك، التي هي أوَّل وصيَّةٍ بوعد. لكي يكون لكم خير، وتكونوا طوال الأعمار على الأرض"[11]. وفي رسالته -أيضًا- إلى أهل كولوسي: "أيُّها الأولاد أطيعوا والديكم في كلِّ شيء؛ لأنَّ هذا مرضيٌّ في الرب"[12].
وفي القرآن الكريم نقرأ قول الله سبحانه وتعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 23، 24].
إنَّ خُلق الإحسان -والإحسان إلى الوالدين بشكلٍ خاصٍّ- نفتقده في العديد من المناطق والفلسفات خاصَّةً في عصرنا الحديث، وما ثَمَّ مكانٌ وُجدت فيه الرأسماليَّة الطاغية التي تجعل الإنسان كائنًا اقتصاديًّا بحتًا إلَّا وينسحب منه خُلق الإحسان، حتى وصل الحال إلى معدلات تُثير الفزع، حتى أصدر مجلس الشيوخ الفرنسي قانونًا يقضي بدفع 49 يورو يوميًّا لكلِّ مَنْ يرعى عجوزًا في أيَّامه الأخيرة؛ وذلك بعد أن أصبح أولئك يُعانون من وِحدةٍ قاتلة، بعد انفضاض الأولاد والبنات والأهل والأصدقاء من حولهم، حتى تكرَّرت الوفيات التي لا تُكتشف إلَّا بعد مرور فترةٍ من الزمن، إلى الحدِّ الذي جعل الحلَّ الأكثر شيوعًا هو اقتناء الحيوانات الأليفة، ولقد بلغ عدد الحيوانات المنزليَّة في بلدٍ مثل بلجيكا يزيد على عدد السكان؛ إذ وصل عددها إلى 11 مليون حيوان مقابل عشرة ملايين شخص، يُنْفَق عليها ما يقرب من 40 مليون دولار في العام، بينما يُنفق الأميركان على حيواناتهم المنزليَّة نحو 25 مليار دولار، ولم يكن غريبًا أن تطلب عجوز كرواتيَّة أن يُدفن ببغاؤها الراحل إلى جوارها؛ لأنَّه ظلَّ الأنيس والجليس الوحيد لها لأكثر من 12 سنة[13]!

المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] أحمد (9673)، والحاكم (7304) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وابن حبان (5858)، وذكره البخاري في الأدب المفرد، ص54 (119)، وصححه الألباني. انظر: السلسلة الصحيحة (190).
[2] البخاري: كتاب الأدب، باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه (5670)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان تحريم إيذاء الجار (46).
[3] إنجيل لوقا 19/8، 9.
[4] إنجيل لوقا 6/34، 35.
[5] ول ديورانت: قصة الحضارة 2/100.
[6] هالة أبو الفتوح: فلسفة الأخلاق والسياسة المدينة الفاضلة عند كونفوشيوس، ص83.
[7] ول ديورانت: قصة الحضارة 3/191.
[8] ول ديورانت: قصة الحضارة 3/28، 172، 228.
[9] هالة أبو الفتوح: فلسفة الأخلاق والسياسة المدينة الفاضلة عند كونفوشيوس، ص88-91.
[10] ول ديورانت: قصة الحضارة 4/60، 274.
[11] رسالة القديس بولس إلى أهل أفسس 6/1-3.
[12] رسالة القديس بولس إلى أهل كولوسي 3/20.
[13] فهمي هويدي مقال بعنوان: "الكلاب والقطط هي الحل!"، صحيفة الشروق المصرية 14/2/2010م.




 توقيع : حسن الوائلي

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ

رد مع اقتباس