الأدارة ..♥ |
❆ فعاليات عَبق الياسمين ❆ | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
عبق العام ✿ جميع القضايا العامة التي تهدف الفائدة والأستفادة ﹂ ✿ |
#1
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من وحي القلم ( قلتُ لنفسي وقالَتْ لي ) مصطفى صادق الرافعي
قلت لنفسي: ويحك يا نفس! ما لي أتحامل عليك؛ فإذا وفيت بما في وسعك أردتُ منك ما فوقه وكلَّفتُك أن تسعي؛ فلا أزال أُعنتك١ من بعد كمال فيما هو أكمل منه، وبعد الحَسَن فيما هو الأحسن؛ وما أنفكُّ أُجهدك كلما راجعكِ النشاط، وأُضنيك كلما ثابت القوة؛ فإن تكن لك هموم فأنا أكبرها، وإذا ساورتك الأحزان فأكثرها مما أجلب عليك.
أنت يا نفس سائرة على النهج، وأنا أعتسف٢ بك أريد الطيران لا السير، وأبتغي عمل الأعمار في عمر، وأستحثُّك من كل هجعة٣ راحة بفجرِ تعبٍ جديد، وكأني لك زمن يمادُّ بعضه بعضًا، فما يبرح ينبثق عليك من ظلام بنور ومن نور بظلام؛ ليهيئ لك القوة التي تمتد بك في التاريخ من بعد، فتذهبين حين تذهبين ويعيش قلبك في العالم ساريًا بكلمات أفراحه وأحزانه. وقالت لي النفس: أما أنا، فإني معك دأبًا كالحبيبة الوفية لمن تحبُّه؛ ترى خضوعها أحيانًا هو أحسن المقاومة؛ وأما أنتَ فإذا لم تكن تتعب ولا تزال تتعب فكيف تُريني أنك تتقدم ولا تزال تتقدم؟ ليست دنياكَ يا صاحبي ما تجده من غيرك، بل ما تُوجده بنفسك؛ فإن لم تَزِد شيئًا على الدنيا كنت أنت زائدًا على الدنيا؛ وإن لم تدعها أحسن مما وجدتَها فقد وجدتَها وما وجدتْكَ؛ وفي نفسك أول حدود دنياك وآخر حدودها. وقد تكون دنيا بعض الناس حانوتًا صغيرًا، ودنيا الآخر كالقرية الملَمْلَمة،٤ ودنيا بعضهم كالمدينة الكبيرة؛ أما دنيا العظيم فقارة بأكملها، وإذا انفرد امتدَّ في الدنيا فكان هو الدنيا. والقوة يا صاحبي تغتذي بالتعب والمعاناة؛ فما عانيتَهُ اليوم حركةً من جسمك، ألفيتَهُ٥ غدًا في جسمك قوة من قوى اللحم والدم. وساعة الراحة بعد أيام من التعب، هي في لذَّتها كأيام من الراحة بعد تعب ساعة. وما أشبه الحي في هذه الدنيا ووشْكِ انقطاعه منها، بمَن خُلِق ليعيش ثلاثة أيام معدودة عليه ساعاتها ودقائقها وثوانيها؛ أفتُراه يغفل فيقدِّرها ثلاثة أعوام، ويذهب يسرف فيها ضروبًا من لهوه ولعبه ومجونه، إلا إذا كان أحمقَ أحمقَ إلى نهاية الحمق؟ اتعبْ تعبَكَ يا صاحبي، ففي الناس تَعَبٌ مخلوقٌ من عمله، فهو ليِّن هيِّن مسوًّى تسوية؛ وفيهم تعبٌ خالِق عمله، فهو جبار متمرد له القهر والغلبة، وأنت إنما تكدُّ لتسمو بروحك إلى هموم الحقيقة العالية، وتسمو بجسمك إلى مشقَّات الروح العظيمة؛ فذلك يا صاحبي ليس تعبًا في حفر الأرض، ولكنه تعبٌ في حفر الكنز. اتعب يا صاحبي تعبك؛ فإن عناء الروح هو عمرها؛ فأعمالك عمرك الروحاني، كعمر الجسم للجسم؛ وأحدُ هذين عُمرُ ما يعيش، والآخرُ عُمرُ ما سيعيش. ••• قلت لنفسي: فقد مللتُ أشياء وتبرَّمت بأشياء. وإن عملَ التغيير في الدنيا لهو هدمٌ لها كلما بُنيَتْ، ثم بناؤها كلما هُدِمت؛ فما من شيء إلا هو قائم في الساعة الواحدة بصورتين معًا؛ وكم من صديق خلطتُهُ بالنفس يذهب فيها ذهاب الماء في الماء، حتى إذا مرَّ يوم، أو عهدٌ كاليوم، رأيتُ في مكانه إنسانًا خياليًّا كمسألة من مسائل النحاة فيها قولان …! فهو يحتمل في وقت واحد تأويل ما أظن به من خير، وما أتوقع به من شر! وكم من اسم جميل إذا هجس٦ في خاطري قلت: آه، هذا الذي كان …! أما — والله — إن ثياب الناس لتجعلهم أكثر تشابهًا في رأي النفس، مما تجعلهم وجوههم التي لا تختلف في رأي العين، وإني لأرى العالم أحيانًا كالقطار السريع منطلقًا بركبه وليس فيه مَن يقوده، وأرى الغفلة المفرطة٧ قد بلغتْ من هذا الناسَ مبلغَ مَن يظن أنه حيٌّ في الحياة كالموظف تحت التجربة، فإذا قضى المدة قيل له: ابدأ من الآن. كأنه إذا عاش يتعلَّم الخير والشر، ويدرك ما يَصلح وما لا يصلح، وانتهى من عمره إلى النهاية المحدودة، رجع من بعدها يعيش منتظمًا على استواء واستقامة، وفي إدراك وتمييز. مع أن الخرافة نفسها لم تقبل قط أن يُعَدَّ منها في أوهام الحياة أن رجلًا بلغ الثمانين أو التسعين وحان أجله فأصبحوا لم يجدوه ميتًا في فراشه، بل وجدوه مولودًا في فراشه …! وقالت لي النفس: وأنت ما شأنك بالناس والعالم؟ يا هذا ليس لمصباح الطريق أن يقول: «إن الطريق مظلم.» إنما قوله إذا أراد كلامًا أن يقول: «ها أنا ذا مضيء.» والحكيم لا يضجر ولا يضيق ولا يتململ، كما أنه لا يسخف ولا يطيش ولا يسترسل٨ في كذب الوهم؛ فإن هذا كله أثر الحياة البهيمية في هذه البهيمة الإنسانية، لا أثرُ الروح القوية في إنسانها. والحيوان هو الذي يجوع ويشبع لا النفس، وبين كل شيئين مما يعتور الحيوانية — كالخلوِّ والامتلاء، واللذة والألم — تعمل قوى الحيوان أشياءها الكثيرة التي تتسلَّط بها على النفس، لتحطَّها من مرتبة إلى أن تجعلها كنفوس الحيوان؛ ولهذا كان أول الحكمة ضبط الأدوات الحيوانية في الجسم، كما توضع اليد العالمة على مفاتيح القطار المنطلق يتسعَّر مرجلُهُ ويغلي. اعمل يا صاحبي عملك؛ فإذا رأيتَ في العاملين من يضجر فلا تضجر مثله، بل خذ اطمئنانه إلى اطمئنانك، ودعه يخلو وتضاعَفْ أنت. إنه ليوشك أن يكون في الناس ناسٌ «كالبنوك»؛ هذه مستودعات للمال تحفظه وتُخرج منه وتثمِّره، وتلك مستودعات للفضائل تحفظها وتُخرج منها وتزيدها. وإفلاس رجل من أهل المال، هو إطلاق النكبة مسدسها على رجل تقتله؛ ولكن إفلاس «بنك» هو إطلاق النكبة مدفعها الكبير على مدينة تدمرها.
الساعة الآن 07:05 PM
|