الطير المهاجر ... قصة بقلمى

جلستُ أرتشفُ كوباً من الشاي في مقعدي الوثير ، وأنا أنظرُ الى ابنتي وهي تلهو ( بالأيباد ) والفرح والسرور بادي على وجهها الجميل هذا ( الأيباد ) الذى احضره لها شقيقي هديةً في عيد ميلادها من ضمن هداياه الجميلة التي دائماً ما يأتي بها إلينا فى كل زيارةٍ من زياراتِهِ التي تُسعدنا دائمًا . بعد خروج زوجي لإنهاء بعض المهام ، أخذتُ رشفةٌ من كوبِ الشاي ثم وضعتُ الكوبَ جانبًا وأرحتُ رأسي على مقعدي ، وسرحتُ بخيالي الى حياتي التى مرَّتْ أمامي كشريطٍ سينمائي .. تَفَتَحَتْ عيناي ، فوجدتُ نفسي طفلةٌ بين ثلاثةِ أشقاء ، يكبُرني أخٌ وتليني أختين أصغرَ مني ، وأمٌ شابَّةٌ دائماً ما أراها مهمومةً مُكبلةً بأربعِ أبناءٍ بعد طلاقها من أبي، الذى تزوج من أخرى وترك لنا الشُّقَةُ بما فيها وأختفى من حياتنا إلى الأبد . كانت أمي تحاولُ أن توفر لنا لقمةَ العيشِ بكلِّ ما تستطيع من حياكةِ الملابس الى رعايةِ أطفالِ العمارة القديمة التي نسكنُ فيها خلالَ فترة عملِ الأمهاتِ مُقابلَ أجرٍ زهيد ، الى تدميس الفول على موقدِ ( يوش ) طوالَ الليل ويحرِمَنا من النومِ لنأكله ، وهو طعامنا الرئيسي ، ولتبيعَهُ لسكانِ العمارةِ بسعرٍ أرخصَ من المحال . ولا أنسى ذلك اليوم الذي أنتقل فيه ساكنٌ جديدٌ متزوجٌ حديثًا مُتغطرساً مُتعاليًا لا يعلمُ شيئاً عن ظروفنا وشكىَ من ( وش) الموقدِ أثناء الليل ، وذهب ليشكو أمي .. فأذا بشرطيٍ يأتي الى منزلنا ليأخُذَ أمي معه الى قسم الشرطة .. وأخذَتْ أمي تبكي ، ونحنُ نبكي معها حتى خرجَ السكان على صوت بكائنا ‘ وغضبوا من موقفِهِ هذا ضد إمرأةٍ ضعيفةٍ ... وذهبَ معها بعض السكان الى قسم الشرطة وواجهوا الساكن قائلين له : إنهم مرتاحون ( لوش ) موقد الست ام حسين وهذا هو اسم شقيقي ’ وشاركهم الضابط فى توبيخ الساكن حينما علم بظروفنا واضطر الساكن التنازل عن شكواه وسبحان الله الذى لا يتخلى عن عباده الضعفاء ...!! بعد هذا الموقف بأيامٍ قابلَ الساكنُ أمي وبادرها بالتحيةِ وطلبَ منها السماح واعتذر عما بدر منه .. وسامحته أمي بنفسٍ راضية وجاءت زوجته لتعتذر لأمي ، ثم أصبحت من زبائنا المُستديمين فى طلب الفول . مرت اسابيع على هذا الموقف ... ثم فوجئنا بالساكنِ يوماً وقدأتى لنا ومعه بوتاجاز صغير قام بشرائِهِ بالتقسيط على أن تدفع أمي ثمنه مقابل خصمِهِ من حساب الفول ودمعَتْ عينا أمي عرفانا له وشكرته .. المهم أنها لم تترك شيئًا لفعله لكي تطعمنا وتعلمنا . وبلغ شقيقي الثانية عشرة من عمره وبدأ يعمل فى فترة العطلة الدراسية حتى موعد الدراسة ليعين امي على المصروف .. ومضت بنا الأيام بحلوها ومُرها حتى وصل شقيقي الى الثانوية العامة ولم يحالفه الحظ فى الحصول على مجموع يؤهله لدخول الجامعة واقترحنا عليه أن يعمل ويحاول الدراسة مرة أخرى . لكنه فاجئنا أنه يريد السفر الى أوروبا ليعمل هناك ، وكان الخبر فجيعةً كبرى زلزلت كياننا جميعًا .. وبكينا وبكت أمي ولكنه صمم على قراره وغضبت عليه أمي قائلةً أتركوه فهو نذل يهرب من مسؤولية ثلاثِ بنات ، ويتركنا كما فعل أبوه وهو يعلم أنه رجل الأسرة الوحيد .. وسافر اخي دون أن تودعه أمي او تصافحه . وعشنا أياما سوداء بعد سفر شقيقي ، وكنت قد وصلت الى السنة الثانية الثانوي وشقيقتي التي تليني الإعدادية والصغرى أولى اعدادي . وأصبحنا نتنفس الحزن وخصوصاً وأن أخي انقطعت أخباره عنا ولم يرسل لنا رسالة او نعلم عنه شيئا .. وبعد عام من المعاناه فوجئنا بأول خطاب من شقيقي وبداخله شيك بمبلغ بسيط واعتذار لعدم كتابته لنا طيلة هذا العام لأنه لم يجد عملا وكان يقاوم البرد والجوع فى أوروبا . وخفف هذا المبلغ البسيط عنا بعض متاعبنا .. ثم توالت الخطابات تنتظم وفى كل مرة شيك بمبلغ صغير وطلب من أمي أن تعفو عنه وتسامحه . ونجحتُ فى الثانوية العامة والتحقتُ بمعهد واستمرت خطابات شقيقي وبدأ المبلغ يتزايد حتى أصبح هو دخلنا الرئيسي وطلبنا من أمنا أن ترتاح من عناء العمل ومضى على هذا الحال خمس سنوات وفى يومٍ ما دق جرس الباب وقامت أمي لتفتح وخرجنا على صراخها فوجدنا شقيقي بالباب ويطلب من أمي قائلا هل أدخل يا أم حسين ؟ وأخذته أمي بين ذراعيها فى حنان وهى تقبله فى كل مكان من وجهه وجاءت معه الحقائب المحملة بالهدايا والذهب لنا وسامحته أمي حين قال لها أنا ليس نذل أو جبان يا أمى ولكن رأيت أخواتي البنات عرائس فمن يتحمل مسؤولية زواجهن .. وقبلته أمي ودعت له بالستر والصحة والعافية .. وأمضى شقيقي معنا شهرا مر كالحلم رأينا فيه ما لم نراه فى حياتنا ثم حان ميعاد سفر شقيقي وقبل سفره أدخل لمنزلنا تليفون لكي يطمئن علينا فى غربته .. واصبحت زيارته سنوية كل صيفٍ يمضى معنا شهرا ثم يعود لغربته . وتخرجت من معهدي ونزلت ميدان العمل والتحقت اختي بالجامعة وكان هدف شقيقي دائما أن نتعلم .. وتقدم لي شاب وبعد موافقة اخي تزوجتُ واصبح هو وزوجى صديقين وجهزني أخي بأحسن جهاز كان يمكن أن أحلم به . وتخرجت أختي وتقدم لها عريس ووافق عليه اخي وأنفق عليها بنفس السخاء وفى يوم زفافها لفت نظره إحدى صديقاتها وأعجب بها وطلب من أمي أنه يريد الزواج من هذه الفتاة ووافقت امي وعقد قرانه عليها وتم زواجه وسافرت معه .. واصبح شقيقي يسكن فى منزل جميل ورصيد فى البنك وكل سنة يأتي هو وزوجته ويمضى معنا شهرا ثم يعود لغربته . وبدأت تضحك لنا الدنيا بعد الكفاح والشقاء فقد أنعم علينا الله بهذا الشقيق الحنون الكريم .. وقد أمضى شقيقي فى غربته أكثر من عشرون عام وطلبنا منه أن يعود الطير المهاجر الى عشه ويستقر بيننا ويقيم لنفسه عملا يناسبه ’ فقد كنا في حاجة له مع تقدم السن واستقرار حياتنا فهو أبونا الذي لم نعرف لنا أبا سواه وكفاه غربة واغترابا ولكنه غير مقتنع بذلك يقول .. لا استطيع العودة لأنه عاجز نفسيا عن العودة والاستقرار فقد أدمن الحياة فى أوروبا وهو محافظٌ على صلاته وصيامه وتدينه لكنه لا يستطيع العودة رغم حبه لبلده .. وصحوتُ من ذكرياتي على يد تربتُ على كتفي بحنانٍ ورأيت زوجي فبادرني قائلا ياااه ما هذا التفكير العميق وابتسمت وقلت له !!! كنت افكر في حسين اخي ألن يأن الأوان للطير المهاجر أن يعود الينا ليستقر بيننا وكفاه غربة وهل قرار العودة بعد هجرة طويلة من القرارات المصيرية فى حياة الأنسان رد عليه زوجي قائلا الانسان دائما يتحمل تبعات القرارات التى يتخذها بإرادته واختياره واقتناعة بها سواء أكانت صائبة أم خاطئة ولابد من يومٍ ما يعود فيه الطير المهاجر الى عشه تمت بحمد لله مع تحيات أبتسامة الزهر .

المصدر : منتديات عبق الياسمين

 

---

آخر تعديل احمد داود الطريفي يوم 21-07-2017 في 01:30 AM.

لا يمكنكم مشاهده باقي المشاركة لأنك زائر ...
فإذا كنت مشترك مسبقا معنا  فقم بتسجيل دخول بعضويتك للمتابعة وإذا لم تكن  فيمكنك تسجيل عضوية جديدة مجانا ً ( من هنا )

اسم العضوية		حفظ معلومات الدخول
كلمة المرور

لا يمكنكم مشاهده باقي المشاركة لأنك زائر ...
فإذا كنت مشترك مسبقا معنا  فقم بتسجيل دخول بعضويتك للمتابعة وإذا لم تكن  فيمكنك تسجيل عضوية جديدة مجانا ً ( من هنا )

اسم العضوية		حفظ معلومات الدخول
كلمة المرور

لا يمكنكم مشاهده باقي المشاركة لأنك زائر ...
فإذا كنت مشترك مسبقا معنا  فقم بتسجيل دخول بعضويتك للمتابعة وإذا لم تكن  فيمكنك تسجيل عضوية جديدة مجانا ً ( من هنا )

اسم العضوية		حفظ معلومات الدخول
كلمة المرور

لا يمكنكم مشاهده باقي المشاركة لأنك زائر ...
فإذا كنت مشترك مسبقا معنا  فقم بتسجيل دخول بعضويتك للمتابعة وإذا لم تكن  فيمكنك تسجيل عضوية جديدة مجانا ً ( من هنا )

اسم العضوية		حفظ معلومات الدخول
كلمة المرور

لا يمكنكم مشاهده باقي المشاركة لأنك زائر ...
فإذا كنت مشترك مسبقا معنا  فقم بتسجيل دخول بعضويتك للمتابعة وإذا لم تكن  فيمكنك تسجيل عضوية جديدة مجانا ً ( من هنا )

اسم العضوية		حفظ معلومات الدخول
كلمة المرور

لا يمكنكم مشاهده باقي المشاركة لأنك زائر ...
فإذا كنت مشترك مسبقا معنا  فقم بتسجيل دخول بعضويتك للمتابعة وإذا لم تكن  فيمكنك تسجيل عضوية جديدة مجانا ً ( من هنا )

اسم العضوية		حفظ معلومات الدخول
كلمة المرور

لا يمكنكم مشاهده باقي المشاركة لأنك زائر ...
فإذا كنت مشترك مسبقا معنا  فقم بتسجيل دخول بعضويتك للمتابعة وإذا لم تكن  فيمكنك تسجيل عضوية جديدة مجانا ً ( من هنا )

اسم العضوية		حفظ معلومات الدخول
كلمة المرور

لا يمكنكم مشاهده باقي المشاركة لأنك زائر ...
فإذا كنت مشترك مسبقا معنا  فقم بتسجيل دخول بعضويتك للمتابعة وإذا لم تكن  فيمكنك تسجيل عضوية جديدة مجانا ً ( من هنا )

اسم العضوية		حفظ معلومات الدخول
كلمة المرور

لا يمكنكم مشاهده باقي المشاركة لأنك زائر ...
فإذا كنت مشترك مسبقا معنا  فقم بتسجيل دخول بعضويتك للمتابعة وإذا لم تكن  فيمكنك تسجيل عضوية جديدة مجانا ً ( من هنا )

اسم العضوية		حفظ معلومات الدخول
كلمة المرور