الأخلاق فطرة بشرية .. هل يمكن أن تُكتسب؟

الأخلاق فطرة بشرية
إنَّنا نعتقد أنَّ كلَّ إنسانٍ بداخله ذلك الشيء الذي يُسَمَّى "الضمير"، وهو ذلك الشيء الذي يفيض جوًّا من الراحة والسعادة والفرح إذا ما أتى الإنسان عملًا حسنًا، وهو الذي يقلب النفس حزنًا وكآبةً بل وجحيمًا إذا ما أتى الإنسان عملًا سيئًا (من وجهة نظر منظومته الأخلاقيَّة)، وكلُّ هذا بغضِّ النظر عمَّا إذا كان العمل الحسن يُحَقِّق منفعةً أمْ يأتي بالمتاعب، وعمَّا إذا كان العمل السيِّئ يُفسد المنفعة أمْ يأتي بها، وإنَّ هذا "الضمير".. هو مشتركٌ إنسانيٌّ عامٌّ.
لقد أمدَّتْنَا المعرفة الإنسانية بكثيرٍ من المعلومات التي تُفيد بهذا التنوُّع الكبير وغير القابل للحصر للمظاهر الأخلاقيَّة عند الشعوب المختلفة؛ فلقد "كان لكلِّ جماعةٍ تشريعٌ أخلاقيٌّ تُلَقِّنه لأفرادها"[1]، ولكنَّنا نستطيع القول: إنَّه بعدد ما نعرف من أقوام وشعوب تُوجد تشريعات أخلاقية، إلَّا إنَّ هذه التشريعات المختلفة تعود في جوهرها إلى أصولٍ واحدة، بما يجعل تعدُّد الأخلاقيَّات بين الشعوب ظاهرة تنوُّع فقط. يقول الدكتور زكريا إبراهيم: "نحن لا نُنكر أنَّ تاريخ الحضارة البشريَّة حافلٌ بالشرائع الأخلاقيَّة المختلفة، والمعايير الاجتماعيّة المتباينة، ولكنَّنا نلاحظ أنَّ الدراسات الأنثربولوجيَّة الحديثة قد كشفت لنا عن وجود تقاربٍ كبيرٍ بين هذه الشرائع الأخلاقيَّة المختلفة"[2].
ثُمَّ يضرب بعض الأمثلة لهذا، فيقول: "صحيحٌ أنَّ البشريَّة حتى القرن السابع عشر كانت ترى في المبارزة حقًّا مشروعًا للفرد؛ فكان الرجل يثأر لكرامته أو شرفه عن طريق الانتصار على خصمه في هذا الصراع المسلح، ولكنَّنا -مع ذلك- ما زلنا نُسَلِّم بمبدأ (الدفاع عن الشرف) أو الكرامة، على الرغم من أنَّنا قد أصبحنا نستنكر اليوم فعل المبارزة، وقد كانت المرأة الهنديَّة قديمًا تحرق نفسها بعد وفاة زوجها؛ لكي ترقد إلى جوار شريكها في كفنه، ولكنَّنا اليوم حتى إذا استنكرنا هذه الفعلة فإنَّنا مع ذلك ما زلنا نعدُّ وفاء الزوجة لزوجها حيًّا كان أم ميتًا فعلًا أخلاقيًّا له قيمته"[3].
وهذا المعنى نفسه يرصده ديورانت بعد رحلةٍ قضاها في الحديث عن الاختلافات الواسعة في أخلاق النَّاس في الزواج والعفَّة، قال: "نعم إنَّه من الحقِّ في الأساس كما قال أناتول فرانس في سخرية: "إنَّ الأخلاق هي مجموعة أهواء المجتمع". وكما قال "أناقارسيس" Anacharsis اليوناني: إنَّه إذا ما جَمَعْنَا كلَّ التقاليد التي تُقَدِّسها جماعة ما، ثُمَّ حذفنا منها كلَّ التقاليد التي تَمُجُّها جماعة أخرى، ما بقي لنا منها شيء؛ لكن ذلك لا يدلُّ على تفاهة الأخلاق في قيمتها، إنَّما يدلُّ على أنَّ النظام الاجتماعي قد احتفظ بكيانه بطرائق شتى؛ ولا يُقَلِّل اختلاف الطرق هذا من ضرورة النظام الاجتماعي؛ فلا بُدَّ من قواعد يرعاها الناس في اجتماعهم بعضهم ببعض"[4].
والحقُّ أنَّه مهما يكن من أمر تغيُّر الظواهر الأخلاقية، فإنَّ من المؤكَّد أنَّ الشرائع الأخلاقيَّة لا تُمَثِّل مجموعة من القواعد التعسُّفِيَّة والاعتباطيَّة، التي لا تخضع لأيِّ منطقٍ ولا تصدر عن أيَّة معقوليَّة؛ بل هي مبادئ إنسانيَّة عقليَّة تستمدُّ أصولها من قاعدةٍ أوَّليَّةٍ عامَّة؛ هي احترام الشخص البشري، وتقديس القيم الإنسانيَّة[5].
وهذا ما دعا هانس كونج أن يقول: إنَّ الديانات في العالم سواءٌ كانت ذات أصل شرقيٍّ ويُميزها "الشكل النبوي" كاليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام، أو ذات أصلٍ هنديٍّ كالهندوسيَّة والبوذيَّة، أو ذات أصلٍ صيني؛ حيث لا نبي ولا رسول، وإنَّما تنتمي إلى "الرجل الحكيم"؛ مثل: كونفوشيوس ولاو تسو -ترجع إلى قيمٍ أخلاقيَّةٍ واحدة بشكلٍ أساسي؛ ما تجده في الكتاب المقدَّس اليهودي في الديكالوج (الوصايا العشر) وخاصَّةً الجزء الثاني، ما تجده -أيضًا- في القرآن؛ ستجد وصايا مماثلة للغاية في التراثَيْنِ الهندي والصيني، وفي وقتٍ مضى ذاع عن باتانجالي مؤسِّس اليوجا مقولة: "لا تقتل، لا تسرق، لا تستغل جنسيًّا". نجد هذه المبادئ -أيضًا- في مجموعة القوانين البوذيَّة، وتجدها كذلك في التراث الصيني، إنَّك بالفعل تجد وصايا من هذا النوع في كتاب حمورابي، كما تجده في تقاليد الأروميِّين في أستراليا[6].
فالخلاصة -التي أردنا التأسيس لها- أنَّ الأخلاق من صميم الطبيعة الإنسانيَّة، وقد وُجِدَت عند كلِّ البشر ابتداءً، ثُمَّ إنَّ جوهرها واحدٌ مهما اختلفت العادات والبيئات.
الأخلاق.. هل يُمكن أن تُكتسب؟
كما اختلف العلماء في تفسير نشأة الإنسان وبداياته الأولى، اختلف علماء الأخلاق في تفسير الأخلاق تبعًا لاختلافهم في هذه النشأة، ولكن وكما يقول ديورانت: "ينبغي أن نتذكَّر مرَّةً أخرى أنَّنا لا نعرف من بدايات الأشياء إلَّا قليلًا"[7]؛ ذلك أنَّ هذه "البدايات هي أسرار التاريخ، التي سنظلُّ نضرب حولها بمجرَّد الإيمان والحدس، لكنَّنا يستحيل أن نعلم عنها علم اليقين"[8].
انسحب جهل العلماء بالبدايات على موضوع الأخلاق ليُنتج نظرتين كبيرتين لتيَّارين حول الموضوع؛ التيار الأوَّل: تيار "اللادينيِّين الماديِّين" -إذا صحَّ الوصف- وهم الذين جاد عليهم العلم بقليلٍ من المعلومات العلميَّة الثابتة؛ فهم يملئون فراغ الصورة بكثيرٍ من الحدس والتخمين والافتراض، وهم يرون تاريخ البشريَّة في تطوُّر مستمرٍّ؛ فالإنسان قد بدأ متخلِّفًا في كلِّ شيء؛ في عقله وتصوُّراته وإدراكاته وأخلاقه، ثُمَّ واجه الحياة التي تتطوَّر هي الأخرى من البساطة إلى التعقُّد، فما يزال الإنسان يُطَوِّر الحياة ثم تُطَوِّره في علاقات تفاعليَّة متبادَلة، فتَطَوَّر عقله وتصوراته وأفكاره وأخلاقه.
التيار الثاني: تيار "أصحاب الديانات"، وهم الذين يعتقدون بأنَّ لهذا الكون الفسيح خالقٌ ومدبِّر، وأنَّ الإنسان هو أحد مخلوقات هذا الإله، وأنَّ الإنسان خُلِق وفي صميم فطرته مجموعةٌ من القيم والمبادئ والأخلاق، أمَّا أنَّ معرفة الإنسان الآن لم تتوصَّل -في دراستها لفجر التاريخ- إلى أبعد من أقوام بدائيَّة همجيَّة ذات اختلاف قيميٍّ كبير، وذات عادات واسعة التشعُّب، فهذا لا يعني قط أنَّ ما لم نعرفه -من حياة الإنسان الأولى- كان أكثر بدائيَّة وأكثر همجيَّة وأقلَّ أخلاقيَّة، بل التفسير الأصوب أنَّ الفترات المجهولة لنا من التاريخ هي التي تحمل سرَّ انحراف هذه الأقوام والشعوب والقبائل عن بداية الإنسان الإيمانيَّة السويَّة الأخلاقيَّة كما خلقها الله في الإنسان الأوَّل (آدم عليه السلام)، الذي هو من عباد الله الصالحين.
يقول الدكتور مصطفى حلمي: "أمَّا عن افتراض الحياة البدائية كمظهرٍ أوَّل للحياة الاجتماعيَّة، فإنَّه يُمكن القول: إنها أبسط ما وصل إلى علمنا من حالات، لا أنَّها الحالة الأولى تاريخيًّا؛ فالاجتماعيُّون يعدُّون البسيط قديمًا وليس هذا بالضروري"[9]. وهذا -أيضًا- ما اعترف به ول ديورانت بشكلٍ ضمني، فتلك الثقافات التي عرفناها "لم تكن بالضرورة الأصول التي تفرَّعت عنها مدنيَّتنا؛ فليس ما يمنع أن تكون بقايا متحلِّلَةً لثقافات أعلى تدهورت"[10].
وما يزال الفريقان في شدٍّ وجذب، ولكنَّ الشاهد من هذا الحديث هو اتِّفاق الجميع على أنَّ الأخلاق يُمكن اكتسابها؛ فالذي يرى أنَّ الأخلاق صنعتها الحياة، فهي نسبيَّةٌ متطوِّرة خاضعة لظروف الزمان والمكان والحاجات والغرائز، ويعترف بأنَّ الإنسان يكتسب مع تقدُّمه أخلاقًا جديدة لم تكن لديه من قبلُ، وأمَّا أصحاب الديانات فهم يؤمنون بأنَّ الأخلاق فطرة مركوزة في أعماق الإنسان، وأنَّ رسالة الأديان أن تعود بالإنسان إلى الطبيعة الأخلاقيَّة السويَّة، وكفى بهذا تأكيدًا على أنَّ الإنسان قادرٌ على اكتساب أخلاقٍ والتخلُّص من أخلاقٍ أخرى.
وهذه القاعدة يُجْملها فيلسوف الأخلاق المسلم ابن مسكويه فيقول: "الخُلق حالٌ للنفس داعيةٌ لها إلى أفعالها من غير فكرٍ ولا روية؛ وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون طبيعيًّا من أصل المزاج؛ كالإنسان الذي يُحَرِّكه أدنى شيءٍ نحو غضب ويهيج من أقلِّ سبب، وكالإنسان الذي يجبن من أيسر شيء؛ كالذي يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه، أو يرتاع من خبرٍ يسمعه، وكالذي يضحك ضحكًا مفرطًا من أدنى شيءٍ يُعجبه، وكالذي يغتمُّ ويحزن من أيسر شيءٍ يناله، ومنها ما يكون مستفادًا بالعادة والتدرُّب، وربَّما كان مبدؤه بالرويَّة والفكر، ثُمَّ يستمرُّ عليه أوَّلًا فأوَّل حتَّى يصير مَلَكَةً وخُلُقًا"[11].

المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] ول ديورانت: قصَّة الحضارة 1/94.
[2] زكريا إبراهيم: المشكلة الخلقية، ص62.
[3] المرجع السابق، ص62.
[4] ول ديورانت: قصة الحضارة 1/83.
[5] زكريا إبراهيم: المشكلة الخلقية، ص63.
[6] هانس كونج: الإسلام رمز الأمل، ص19.
[7] ول ديورانت: قصة الحضارة 1/70.
[8] المرجع السابق 1/16.
[9] مصطفى حلمي: الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام، ص77.
[10] ول ديورانت: قصة الحضارة 1/153.
[11] ابن مسكويه: تهذيب الأخلاق، ص25.

المصدر : منتديات عبق الياسمين

 

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ

لا يمكنكم مشاهده باقي المشاركة لأنك زائر ...
فإذا كنت مشترك مسبقا معنا  فقم بتسجيل دخول بعضويتك للمتابعة وإذا لم تكن  فيمكنك تسجيل عضوية جديدة مجانا ً ( من هنا )

اسم العضوية		حفظ معلومات الدخول
كلمة المرور

لا يمكنكم مشاهده باقي المشاركة لأنك زائر ...
فإذا كنت مشترك مسبقا معنا  فقم بتسجيل دخول بعضويتك للمتابعة وإذا لم تكن  فيمكنك تسجيل عضوية جديدة مجانا ً ( من هنا )

اسم العضوية		حفظ معلومات الدخول
كلمة المرور

لا يمكنكم مشاهده باقي المشاركة لأنك زائر ...
فإذا كنت مشترك مسبقا معنا  فقم بتسجيل دخول بعضويتك للمتابعة وإذا لم تكن  فيمكنك تسجيل عضوية جديدة مجانا ً ( من هنا )

اسم العضوية		حفظ معلومات الدخول
كلمة المرور

لا يمكنكم مشاهده باقي المشاركة لأنك زائر ...
فإذا كنت مشترك مسبقا معنا  فقم بتسجيل دخول بعضويتك للمتابعة وإذا لم تكن  فيمكنك تسجيل عضوية جديدة مجانا ً ( من هنا )

اسم العضوية		حفظ معلومات الدخول
كلمة المرور

لا يمكنكم مشاهده باقي المشاركة لأنك زائر ...
فإذا كنت مشترك مسبقا معنا  فقم بتسجيل دخول بعضويتك للمتابعة وإذا لم تكن  فيمكنك تسجيل عضوية جديدة مجانا ً ( من هنا )

اسم العضوية		حفظ معلومات الدخول
كلمة المرور

لا يمكنكم مشاهده باقي المشاركة لأنك زائر ...
فإذا كنت مشترك مسبقا معنا  فقم بتسجيل دخول بعضويتك للمتابعة وإذا لم تكن  فيمكنك تسجيل عضوية جديدة مجانا ً ( من هنا )

اسم العضوية		حفظ معلومات الدخول
كلمة المرور

لا يمكنكم مشاهده باقي المشاركة لأنك زائر ...
فإذا كنت مشترك مسبقا معنا  فقم بتسجيل دخول بعضويتك للمتابعة وإذا لم تكن  فيمكنك تسجيل عضوية جديدة مجانا ً ( من هنا )

اسم العضوية		حفظ معلومات الدخول
كلمة المرور

لا يمكنكم مشاهده باقي المشاركة لأنك زائر ...
فإذا كنت مشترك مسبقا معنا  فقم بتسجيل دخول بعضويتك للمتابعة وإذا لم تكن  فيمكنك تسجيل عضوية جديدة مجانا ً ( من هنا )

اسم العضوية		حفظ معلومات الدخول
كلمة المرور

لا يمكنكم مشاهده باقي المشاركة لأنك زائر ...
فإذا كنت مشترك مسبقا معنا  فقم بتسجيل دخول بعضويتك للمتابعة وإذا لم تكن  فيمكنك تسجيل عضوية جديدة مجانا ً ( من هنا )

اسم العضوية		حفظ معلومات الدخول
كلمة المرور