كنت العام الماضي في زيارة إلى معمل هندسة التغيير في جامعة ستانفورد، واشتركت مع آخرين في تمرين على نمذجة رؤية 2030 حسب منهجية هندسة التغيير التي تمر بعمليات تحليلية طويلة ينتج عنها فهما للعوامل المؤثرة في تحقيق أهداف أي منظومة، وقد عرضت لهذه المنهجية هنا باختصار في مقالين سابقين. ومن مخرجات هذا التمرين ظهور عدد من العوامل المؤثرة من أهمها الموقف من الماضي كمؤثر حيادي، والدعاية المناهضة كمؤثر سلبي. وخرجت من التمرين بضرورة إعادته مع إضافة التحليل التاريخي مع التوسع في المعلومات والفريق المشارك.
ونحن نتذكر تاريخ توحيد المملكة في الذكرى التسعين، يجدر بنا أن نتوقف عند حقيقة تزداد وضوحا مع الأيام، أن نموذج المملكة الذي يلتئم فيه السياسي مع الاقتصادي في بنية متجانسة، هو الأنجح بين تجارب التنمية في المنطقة. وبتحليل تاريخ المملكة من منظور الابتكار والتغيير والديمومة، سنجد أن هذه العناصر الثلاثة تتفاعل فيما بينها لتحقق النجاح الذي استمر على مدى طويل من التجارب المتراكمة في منطقة متوترة وشديدة التحول. وبالنظر إلى تاريخ المملكة سنجد العناصر الثلاثة تعمل معا بدرجات مختلفة منذ تأسيس المملكة على يد الملك عبدالعزيز رحمه الله، سواء في سيرة توحيد المملكة أو في سيرة تنميتها بعد ذلك.
وعند قراءة تاريخ المملكة من منظور عناصر التحول المستمر (الابتكار، التغيير، الديمومة) سنجد أمثلة على توظيف العناصر مجتمعة أو عنصرين على الأقل لتحقيق التنمية السياسية أو الاقتصادية. سنجد أن الابتكار يلتقي بالتغيير في فترات التحول الكبير، والديمومة تلتقي بالتغيير في فترات النمو والإنتاج. ولو نظرنا إلى رؤية 2030 مثلا، سنجد إن عنصرا الابتكار والتغيير هما الأكثر نشاطا، نظرا لأن المملكة تمر بمرحلة تحولية كبيرة. وعند وجود نموذج التحول المستمر في أي منظومة، فإن عمليات التحول تتحرك تلقائيا، وقد تتسارع وتتباطأ حسب المعطيات، لكنها كفيلة بإصلاح نفسها في النهاية. وبالنظر إلى مخرجات ورشة ستانفورد، سنجد إن النظرة إلى الماضي كفيلة بتعطيل القدرة على الابتكار إذا كانت نظرة لا تستلهم الماضي إنما تتوقف عنده دون نقد. والدعاية المناهضة تعطل القدرة على التغيير أولا، وتمتد إلى تعطيل الابتكار والديمومة، لأنها تصنع شعورا عاما بالوهن واليأس.
وعند إجراء تحليل تاريخي للتحديات التي كانت في طريق الملك عبدالعزيز لتوحيد المملكة، سنجد أن عمليات كثيرة استندت على الديمومة، كالعودة إلى الرياض واسترداد عاصمة الدولة كونها امتداد للدولة السعودية الثانية والأولى. وسنجد إن عمليات أخرى كانت مبتكرة لم يُسبق إليها كالاستعانة بمستشارين استقطبهم الملك عبدالعزيز واستعان بهم لبناء رؤية سياسية عميقة في فترات حرجة من التاريخ الحديث خصوصا أثناء الحرب العالمية الأولى وما بعدها. وسنجد أمثلة أخرى بعد توحيد المملكة يتبين لنا فرادة التجربة السعودية في بناء الدولة من خلال قدرتها على التحول المستمر.