عائشة بنت أبي بكر 2 - هجرة الرسول ولحاقها به بعد الهجرة
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
سؤال قد يرد :
أيها الأخوة الكرام, مع الدرس الحادي عشر من دروس سير الصحابيِّات الجليلات رضوان الله تعالى عليهن أجمعين، ومع أمهات المؤمنين، زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ومع الزوجة الثالثة السيدة عائشة بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما .
أيها الأخوة الكرام, قد يسأل أحدكم: هذا الفارق الكبير في السن بين السيدة عائشة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلَّم, كيف تزوَّج النبي امرأةً في سن أمه, ثم كيف تزوج امرأةً في سن ابنته؟ الأمور التي لا يدلي الشرع فيها بحكمٍ ترجع إلى الأعراف .
فأنت إذا قلت: أنا أكلت اللحم, ماذا تقصد؟ لحم الضأن أو لحم البقر، لأنك إذا أكلت سمكاً تقول: أكلت سمكاً, فإذا إنسان حلف بالطلاق ألّا يأكل لحماً، فهل بإمكانه أن يأكل سمكاً؟ نعم بإمكانه، مع أن السمك لحم، لكن العرف هو أن اللحم هو لحم الضأن أو البقر, والسمك شيءٌ آخر، ففي الموضوعات التي لم يكن هناك حكمٌ شرعي, يعود الأمر إلى العرف .
هذا موضوع طويل في أصول الفقه، بابٌ كبير، فأحد المصادر التشريعية العرف, فهو الذي يحكم القضايا التي ليس فيها حكم شرعي .
لو أن في زواج الرسول صلى الله عليه وسلَّم من السيدة عائشة أيُّ مأخذٍ في أعراف العرب وقتها, لأُخِذ على النبي صلى الله عليه وسلَّم هذا الزواج، بل إن البيئة وقتها تسمح بأن تأخذ امرأةً في سن أمك، وتسمح بأن تأخذ امرأةً في سن ابنتك, ولكن السيدة عائشة لها دور كبير جداً في موضوع الفقه .
فقال بعض العلماء:
((إن ربع الأحكام الشرعيَّة عُلِم منها))
إن ربع الأحكام الشرعية التي عرفناها من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم, إنما عُرِفَت من أحاديث روتها السيدة عائشة رضي الله عنها، فامرأة النبي، زوجة النبي، أم المؤمنين, لها دورٌ خطيرٌ جداً في الدعوة؛ لأنها يمكن أن تختص بالنساء، تعلمون أن النساء يسألن النبي عليه الصلاة والسلام عن موضوعاتٍ تخصُّ حالَهن، وأفضل إنسانة تعبِّر عن الأحكام الشرعية المتعلِّقة بالمرأة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، إذاً: لها دورٌ في الدعوة .
ويقول العلماء أيضاً: ما رأوا أحداً أعلم بمعاني القرآن, وأحكام الحلال والحرام, من السيدة عائشة، وما رأى العلماء أحداً أعلم بالفرائض, والطب, والشعر, والنسب, من السيدة عائشة, مع أنها صغيرة, إلا أنها كانت شيئاً نادراً في الذكاء، وشيئاً نادراً في الحفظ، وشيئاً نادراً في الوفاء للنبي عليه الصلاة والسلام .
إذاً: فليعلم القارئ حقاً ويطمئن, أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلَّم قد اختارهنّ الله جلَّ جلاله له، لما سيكون لهن من دورٍ في الدعوة مستقبلاً .
فهذا الذي يفكر أن النبي تزوج زوجةً في سن ابنته، أو امرأةً في سن أمه، هذا لا يعرف من هو النبي, فالنبي عليه الصلاة والسلام بقي مع السيدة خديجة, وهي في سن أمه, ربع قرنٍ، وكان بإمكانه أن يتزوَّج أجمل فتيات مكة، فهو بعيدٌ جداً عن هذا الذي يفكِّر فيه أعداء الإسلام .
أيها الأخوة الكرام, السيدة عائشة روت عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ألفي حديث ومئتين وعشرة أحاديث، وحفظت القرآن الكريم كلَّه في حياة النبي .
إذاً: من يقول: إن هناك فارقاً في السن, هذا الفارق في السن, كان مألوفاً في عصر النبي، ولو كان هناك مطعنٌ في هذا الموضوع, لما سكت أعداء النبي، ولجعلوا من هذه القضية قضيةً كبيرةً جداً .
إليكم بعض الصفات التي كانت تتمتع بها السيدة عائشة كما ذكرها الذاكرون :
من صفات هذه الزوجة الطاهرة على صغر سنها: أنّها كانت ناميةً ذلك النمو السريع الذي تنموه نساء العرب، وكانت متوقِّدة الذهن، نيِّرة الفكر، شديدة الملاحظة، وهي وإن كانت صغيرة السن, لكنّها كبيرة العقل .
نحن تعلَّمنا في الجامعة أن للإنسان عمرين؛ عمر زمني، وعمر عقلي، وقد يبتعدان عن بعضهما، قد تجد إنساناً عمره الزمني عشر سنوات، أما عمره العقلي فخمسة عشر عاماً، وقد تجد إنساناً عمره الزمني عشرون عاماً؛ وعمره العقلي خمسة عشر عاماً، فالعقل لا ينمو مع نمو الجسم, بل له نموّه الخاص .
فالسيدة عائشة رضي الله عنها على صغر سنها, نمت نمواً سريعاً, وعلى صغر سنها, كانت متوقِّدة الذهن، نيرة الفكر، شديدة الملاحظة، فهي وإن كانت صغيرة السن, لكنها كبيرة العقل، أي لها دور في الدعوة الاًسلامية .
تروي كتب السيرة: أن النبي عليه الصلاة والسلام تزوج امرأةً فيما بعد، قال لها ضرَّاتها: إذا التقيت بالنبي فقولي له: أعوذ بالله منك, فلما دخل عليها النبي, قالت: أعوذ بالله منك, فماذا قال لها؟ قال:
((الْحَقِي بِأَهْلِكِ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
رفضها، هل يعقل أن تكون زوجة رسول الله بهذا الإدراك؟ فهي مبلِّغة عن رسول الله ، تبلِّغ عنه الشرع، شيءٌ خطيرٌ جداً أن تكون زوجة النبي عليه الصلاة والسلام محدودة التفكير، لأنها تنقل عنه، وربما نقلت عنه الشيء الذي ما أراده النبي عليه الصلاة والسلام .
إذاً: هناك حكمةٌ إلهيةٌ بالغة من أن الله سبحانه وتعالى هيَّأ لرسوله الكريم هذه الزوجة العاقلة، المتقدة في الذهن, والذكاء, والفطنة، كثيرة الملاحظة، ذات النفسيَّة الطيِّبة .
يقولون: ولو لم تكن السيدة عائشة رضي الله عنها في تلك السن التي صحبت بها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وهي السن التي يكون فيه الإنسان أفرغ بالاً، وأشد استعداداً لتلقي العلم، لما تهيَّأ لها ذلك .
فالعلم شيءٌ أساسيٌ في حياة المؤمن، والنبي عليه الصلاة والسلام كل شيءٍ يقوله ينبغي أن ينقل عنه، وأفضل امرأةٍ تنقل عنه زوجته، إذاً: فلنطمئن أنّ الله سبحانه وتعالى اختارها على علمٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
أقوال العلماء التي جمعت عن هذه السيدة الجليلة :
قال الإمام الزُهري:
((لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين، وعلم جميع النساء, لكان علم عائشة أفضل))
والحقيقة: أن الشيء الذي يدهش العقول، أو الشيء الذي يلفت النظر, أن تكون المرأة على درجة عالية جداً؛ من الفهم, والعلم, والفقه، فالمرأة عند الناس امرأة، لكن المرأة التي تتمتَّع بعقلٍ راجح، وإدراكٍ عميق، وفهمٍ دقيق، وحفظٍ شديد, هذه امرأةٌ نادرةٌ جداً، وامرأةٌ مؤهَّلةٌ لأن تكون زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
عطاء بن أبي رباح يقول:
((كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة))
والحقيقة: مِن مُتَع الحياة أن تعيش مع الذكي، ومن البلاء الشديد أن تعيش مع المحدود, تكاد تخرج من جلدك، سمعتم مرةً مني أن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه, بينما كان يلقي درساً على أخوانه حول صلاة الفجر، وفيما قرأت كانت رجله تؤلمه، وبينه وبين تلاميذه مُباسطة، ليس هناك كلفة، ولعذرٍ فيه كان يمد رجله، دخل رجل طويل القامة، عريض المنكبين، حسن الهيئة، يرتدي عمامةً وجُبةً، وجلس في مجلس هذا الإمام العظيم .
فأبو حنيفة رضي الله عنه, ظنَّه عالماً كبيراً، فاستحيا منه ورفع رجله، أي أن بينه وبين أخوانه ليس هناك كلفة، أما هذا فضيف غريب لعلَّه ينتقده، فلما انتهى الدرس, سأله هذا الرجل: يا إمام, كيف نصلي الصبح إذا طلعت الشمس قبل الفجر؟ فقال له: عندئذٍ يمد أبو حنيفة رجله .
لذلك فأنا أرى أن من إكرام الله لرسول الله, أنه قيَّض له أصحاباً على مستوى عالٍ من الفطنة، والوفاء، والذكاء، والحُب، والتضحية، والإخلاص، وكلَّما ارتقى مقامك عند الله, هيَّأ الله لك أُناساً قريبين منك، كلَّما ارتقى مقامك عند الله, هيَّأ الله لك أُناساً يفهمون عليك، يفهمون عليك بالإشارة، يقدِّرون ما أنت فيه، يعرفون قدرك حق المعرفة، يعرفون أهدافك النبيلة .
وقال أبو موسى الأشعري:
((ما أشكل علينا أمرٌ, فسألنا عنه عائشة، إلا وجدنا عندها فيه علماً))
وقال مسروق:
((رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الأكابر يسألونها عن الفرائض))
وقال عروة:
((ما رأيت أحداً أعلم بفقهٍ ولا طبٍ ولا بشعرٍ من عائشة))
وقال أبو الزناد:
((ما كان ينزل بها شيءٌ إلا أنشدت فيه شعراً))
أيها الأخوة, أردت من هذه المقدمة أن تعلموا أن عائشة أم المؤمنين، اختارها الله عزَّ وجل لنبيِّه الكريم، لتكون زوجته, وأمينة سرِّه, وراويةً عنه .
|