ما من قائمة، حتى لو كانت بِطول كل القيود ومساحة كل السجون، تستطيع أن تضم كل ضحايا الرأي عبر التاريخ. فمنذ بدء الخليقة والاختلاف يفسد للود كل القضايا. ولعل الإنسان ابتكر وسائل التعذيب وأساليبه لأجل من يخالفه الرأي تحديدًا، قبل أن يُعملها في من يخرج على القانون، مع أن القانون نفسه ليس سوى رأي تمّ فرضه بقوة القانون.
حَمَلة الفكر وأصحاب الرأي يملكون أجسادًا يسهل امتهان سَداتها والزج بلُحمتها في أتون دونها الأتون، أما الأفكار والآراء فقد ظلت لعصور طويلةٍ بعيدةً عن أي بطش، إذ ما هشَّم السحرة قمقما قبل أن يحل المارد في آلاف غيره. لذلك، يقينًا ،أنشأوا أغرب آلتين على الإطلاق: واحدة لغسيل الأدمغة، في سعي منهم إلى تحويل العقول إلى دواليب برفوف ناصعة ومكوية بعناية، والأخرى لصناعة الرأي العام، فلا يشوب كورال القطيع أيّ نشاز.
الجماعة، أسرةً كانت، قبيلةً أو أمة، لا تطمئن سوى إلى الأفكار السائدة، بعد أن يكون السواد الأعظم قد هيّأ لها أسباب السيادة. لذلك فهي ترى في كل اختلاف عقوقًا تجحظ له منها عيون السخط.
عبر التاريخ، لم يُسفر التشابه والتطابق والتماهي عن غير القطعان والفيالق والحشود والدهماء ... وهي من دون ملامح تذكر، فأحرى أن تشكِّل علامة فارقة في وجه الدهر. أما الاختلاف والتفرد والتحليق بعيدًا عن السرب... مع ما يكلّف ذلك من جهد جهيد مقابل الازدراء والجحود غالبًا، والتنكيل والقتل في أشهر الأحوال، فقد قدمت للبشرية ألمع الوجوه وأعظم الأفكار. ولولا خطى هؤلاء، رغم قيود أولئك، لما تقدّمت الحضارة الإنسانية من أوج إلى آخر.
لا أحد الآن، حتى لو كان فيلسوفًا، يذكر أسماء قضاة أثينا. لكن لا أحد ينكر على سقراط الرأي وشجاعة الشجعان، وهو يوثر على الهروب كأسَ الشوكران، يردي به عدالة المدينة ويسقي به شجرة الحكمة، فيورث نسله أبًا جديرًا بالخلود. كما أن لا أحد، حتى لو كان فلكيا، يذكر أسماء من حكموا بثبات الأرض، لكن أحدًا لا ينكر على غاليليو عبقريته وشجاعته وهو يضرب الأرض بقدمه مؤكّدًا أنها تدور.
سقراط وغاليليو برجان توأمان يزدادان شموخًا كلما أمعنت البشرية في الضوء. قبلهما، بينهما، وبعدهما ترصعت أرض التاريخ بأرواح العديد من الأفذاذ، أولاءِ بطشت بهم النعال والبساطير وهشمت أحلامهم المطارق فالمقاصل. فأصالة عن نفسه الأمَّارة به، ونيابة عن الصولجان والجامور والجرس والنجمة والمطرقة والمنجل وغيرها من الأيقونات العبوسات، أتى الاستبداد على أبهى فلذات الأرض، وبذرائع تظل أحيانًا وصمة عار على جبين أمة بأسرها، كما حدث لفرنسا مع لافوازييه.
فبعد أكثر من عشرين قرنًا على محاكمة أثينا، عاصمة الحكمة، لحكيمها الأكبر سقراط، أبِ الفلسفة، حاكمت باريس، عاصمة الأنوار، أحد عظمائها، لافوازييه، أبِ الكيمياء، الذي ابتكر نظامًا لإنارة شوارعها، وقضت بإطفاء حياته، معتبرة أن الجمهورية بحاجة إلى العدالة وليست بحاجة إلى علماء.
سقراط، غاليليو ولافوازييه هم على التوالي آباء الفلسفة والفيزياء والكيمياء. ومحاكمتهم وقتلهم، إنما هو نوع من قتل الأب دونه قتل أوديب الملك. لقد كان على التاريخ أن يقوم بالتشريح تحت إشراف شخصي من فرويد، حتى ترى العدالة أي وجه جائر حملت عبر العصور، وأي جرح غائر أحدثت في وجه كل من أثينا الحكيمة، وروما الخالدة، وباريس الأنوار.
عبر التاريخ دائما، وباسم نفس الأيقونات، استطاع الاستبداد أن يُفَصِّل تشكيلة من التهم لا تُلَبّسُ الواحدة منها إلا كما يُلَبّسُ الكفن. هكذا ظهرت الهرطقة والزندقة والعصيان والتآمر وشقّ عصا الطاعة والخيانة العظمى وغيرها من التهم التي تفوح منها رائحة القبور. وظهرت معها المقصلة والمشنقة والبلطة والخازوق والزرنيخ والنطع والسحل وغيرها من الكلمات الناعقة، وصولًا إلى الكرسي الكهربائي الذي ارتأى أحد الطغاة استيراده تحديثًا للموت حتى قبل تزويد البلاد بالكهرباء تحديثا للحياة... وبين التهمة وبين العقاب برزخ دون جحيمه الجحيم.
لا يستقيم الحديث عن الاستبداد ونبذ الاختلاف وحرية الرأي، دون الوقوف عند البلاد العربية التي لم تكن تملك من سلاح في جاهليتها الجهلاء سوى السيف واللغة. أما هذه، وأقصد اللغة، فهي غرة الاستبداد العربي، فما إن تسلمها يعرب بن قحطان نيابة عن قومه، إثر تداعي برج بابل، حتى استأثر بها لنفسه وسماها على اسمه: العربية. وأمّا السيف، فلفرط شغفهم به أغدقوا عليه من الأسماء ما جعله لا ينبو كل هذه العصور، إذ كيف يفعل وفي حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب على حدّ قول الشاعر، وكيف يفعل وقد أضحى أداة قطف الرؤوس وقد أينعت؟ بل إن بعض أحفاد يعرب استأثروا بالسلاحَيْن معًا: اللغةِ، حين سمَّوْا البلاد باسمهم، والسيفِ، إذ جعلوه رمزًا على بيرقهم حتى والزمن زمن النّابّالم.
فلا غرابة أن يكون سادة السيف واللسان من أشهر ضحايا ذلك الزمان. فعنترة العبسي، الفارس الأشهر، نُبِذ بجريرة لونه. وامرؤ القيس، الشاعر الأكبر، مات بمرض جلدي قيل جرَّاء رداء مسموم. وطرفة بن العبد، الشاعر الغرّ، حُمِّلَ رسالة تحمل موته. وهؤلاء جميعًا من شعراء المعلقات التي لطالما افتخر بها العرب افتخار من يأكل الغلة ويسب الملة.
حين انتقل العرب من المضارب إلى العواصم بعد أن استتبّت لهم الأرض بالسيف، صار لهم فضلًا عن الشعراء، فقهاءُ ومتكلِّمة، علماء ومتصوّفة، أطباء وتراجمة، وأئمة وفلاسفة... وجدَّت في أمور حياتهم أمور، فعوّضت أطنابَ الخيام دسائسُ القصور. فما كان من الاستبداد سوى أن طوَّر أساليبه بتنوع ضحاياه، مُدشِّنًا عصورًا دموية لم تبتدئ مع الحَجَّاج بن يوسف الثقفي ولن تنتهي مع حُجَّاج المعتقلات السرية. هكذا صار لدمشق وبغداد منذ القدم، ولغيرهما من العواصم لاحقا، ما تفاخر به أثينا وروما وباريس من الأفذاذ، وما تَبُزّها به من أساليب التنكيل بهم، حتى ليبدو سقراط محظوظًا بإعدامه جملةً إذا ما قورن بمن أعدِموا خليةً خليةً، وأقصى حلمهم أن يتجرعوا كأس الشوكران ترياقًا.
لم يُوفِّر الاستبداد العربي عالمًا لعلمه، ولم يوقِّر فقيهًا لفقهه. فالجميع، على اختلاف المشارب والمذاهب، ومن شتى الأنساب والأحقاب، كانوا سواسية أمام أسنان البطش. فلا عجب إذا كنا الآن نستشهد بالشهداء، ونستنير بمن أُحرقوا شخوصًا ونصوصًا، ونعتز بالذين انتهوْا أذِلَّة. أفكّر في ابن رشد، والحلاج، وابن المقفع، وأبي الحيان، وعباس بن فرناس، وابن حنبل، وبشار بن برد، والكندي... أفكّر في هؤلاء وعشرات غيرهم، وأتساءل: ماذا لو كان العرب، قديمًا، قد عرفوا الرصاص وأحواض الأسِّيد؟
هكذا لم يعد الاستبداد حكرًا على الخليفة المستبد بالله، مثلما لم تعد المكائد والضغائن مدسوسة في لباسه الناعم كالحريم، أو طيَّ بطانته الغليظة كالجِلْواز والوزير وقائد الجيش وصاحب الشرطة.
فالدولة الحديثة أفرزت أنظمةً، ومؤسساتٍ، وأحزابًا، ومصالح، ولوبيَّات، ومراكز قوى، وأذرعًا ذات بأس شديد، وأوجهَ حياة كثير منها أقنعة... فتفرق جسم الاستبداد في جسوم كثيرة، وحلّت روحه في العديد من الهياكل، فتعدّدت دواعيه وأساليبه، فإذا التعليل غير التعليل والتنكيل سوى التنكيل.
بعد أن أردتْ من أردتْ وأودتْ بمن أودتْ، باتت جزءًا من الماضي تهمٌ كالزندقة والمروق والإلحاد ومحاولة تغيير الخلق... ولم يعد أحد يساق أمامها إلى حتفه إلا في بعض مدن الملح، حيث السيَّاف جار الصيدلي والجلاد قريب الطيّار. وحلت مكانها تهم تليق بعصر الإسفلت والنيون، تهم لا تتخذ من القلب، مركز الإيمان، دريئتها. فهي تطعن في العِرض والعقل والذمة وغيرها مما ينزف كرامةً لا دماءً.
ومع ازدهار هذه التهم شاع شراء الذمم، واستبدل بقطع الأعناق قطع الأرزاق، وبتكميم الافواه ملؤها بالماء، وببقر البطون حشوها بالعجين، وعلى نفس النول ينسج الرداء الموسوم والرداء المسموم.
وكما أن المجتمع طبقاتٌ والسخطَ درجاتٌ في عين السخط، فإن التهم تختلف بين القاعدة، وهذه وحدها تهمة التهم، وبين القمة، حيث ما من جرف إلَّا وهارٍ.
فعند العامة، على سبيل الضحك الذي كالبكاء، تهمة الأمرد أنه أمرد، وتهمة الأزغب أنه أزغب، وتهمة الهادئ هدوء ما قبل العاصفة، وتهمة الصامت أنه نهر بلا خرير. على أن أغرب ما نمي إلينا في هذا الباب، والعهدة على من روى، أن أحدهم تعرّى تحت المطر، فاقتيد إلى المخفر بتهم الاستهزاء بالشتاء، وأن آخر، وقد كان مخمورًا، صرخ في إحدى الساحات العامة: الله أكبر، فجُرجِر للتو بتهمة الجهاد في حالة سُكْر.
وغير بعيد في الزمان والمكان، وتحديدًا في الدولة العثمانية، بدايةَ القرن الماضي، اتهم مدرِّس كيمياء باحتقار السلطان عبد الحميد الثاني واعتباره شخصًا منعدمًا، وحجة الوشاة في ذلك أنه كتب على السبورة، أمام التلاميذ ودون أن يطرف له جفن: H2O.
هذه التهمة، على فُرادتها، لا تعدم لها نظيرًا. ففي سبعينيات القرن الماضي، وإثر إحدى تلك الحملات التمشيطية التي كانت بمثابة رياضة تمارسها أجهزة الأمن يوميًّا، اعتقل أحد الطلبة، وفي أثناء تنقيطه في المخفر، وردًّا على سؤال حول مهنته أجاب باقتضاب: PC، فقدّم للمحاكمة وقضى زهاء عقدين من الظلام. ولم يعرف إلا بعد الإفراج عنه أن الحرفين المشؤومين لا يرمزان فقط إلى شعبة الفيزياء والكيمياء التي دخل السجن بدل أن يتخرَّج منها، بل يعنيان أيضا: الحزب الشيوعي، وذلك بالضبط ما دُوّن في صحيفته.
كانت إيذانًا بعذاب القبرْ
وكان الجلَّادون هم الحُجَّاجْ
ولعل تسمية الجلادين بالحجّاج كانت جزءًا من التعذيب، لا لأنها تذكر على الفور بالحجاج بن يوسف الثقفي، بل لأن معتقلي تلك المرحلة كانوا من مثقفي اليسار الذين لا علاقة لهم بالدين والتدين، فلم يكن أشد مضاضة عليهم من أن ينكل بهم مسلمون استطاعوا إلى الحج سبيلًا، تمامًا مثلما لم يكن أقسى على النشامى من أن تجرجرهم عراةً نساء العلوج غير الماجدات.
كثير من معتقلي الرأي كتبوا عن تجاربهم، فصار للمكتبة رف يُعرف بأدب السجون. فكم سيكون مفيدًا وجميلًا من علماء اللغة والاجتماع والنفس وغيرهم، أن يتناولوا بالتحليل هندسة المعتقلات، خطابها وممارساتها... فيضيفون بذلك رفًّا آخر عن الخفي والظاهر في سيكولوجية الإنسان القاهر.
مع ازدهار ثقافة حقوق الإنسان، وتكاثر الجمعيات والمنظمات التي أُنشئت لأجلها تحديدًا، مع عولمة هذه الحقوق وتصدّرها لاهتمام وسائل الإعلام، مع هذا وكثير غيره، لم يُسقط في يد الاستبداد، إذ كيف يُسقط في يد من حديد؟ كيف يُسقط في يد من حديد توقّع المواثيق والمعاهدات عاريةً، وتنقضها وهي في قفَّاز من حرير؟
إلى توظيف كل هُمَزَةٍ لُمزهْ
فأصبحت تطالعنا كلَّ صباح وجوه الحجاج الجدد: وجوه شابة وحليقة... وكل واحد منها يحدث بنعمة ربّه.
يصبح على أعمدتهم مصلوبا:هؤلاء هم أصحاب الأعمدهْ الذين يطلعون على الأفئدهْ
منهم الفحل، لا ينتصب إلَّا ليفتضَّ طبقَته الاجتماعية ويوسعَها قذفًا، مدشِّنًا بذلك نوعًا غريبًا من زنا المحارم.
ومنهم العنّين يستعين بالفياغرا على الاستمناء.
منهم الدَّعِيُّ ومنهم اللئيمُ
منهم الحاقد والجاحد والإمَّعهْ
وللتضييق على أهل الرأي وتسفيه ما يكتبون، ظهر عندنا رهط من كتاب الراي، بعد أن وضعوا الهمزة في جيوبهم، صاروا يصدعون بما أُمروا. وهؤلاء تُغني عن مواويلهم القبيحهْ إهداءاتهم الفصيحهْ:
في خاطر اللي شافك ما شفتيه
في خاطر الرباط وسلا وما جاورهما
في خاطر عفاريت سيدنا علاء الدين
وكتاب الراي هؤلاء، في الجرائد والمواقعْ، هم الدليل القاطعْ على حرية التعبير في البلادْ، فكل واحد منهم يكتب ما أرادْ وليُّ نعمته.
هؤلاء وأولئك ليسوا سوى الجزء الظاهر من جبل الظلام الذي يهيلون منه على كل بقعة ضوء.
هؤلاء وأولئك هم دوزان الضجيج المسلح الذي يسلطونه على كل عزف منفرد.
هؤلاء وأولئك هم الحديد الناعم: كاتم الموت.
فلو كان سقراط وغاليليو ولافوازييه وغيرهم بيننا، هنا والآن، لما كلفوا حضاراتهم قطرة دم، فأحرى تلك الندوب التي أحدثتها محاكماتهم الغريبة. فالتخلص منهم لن يتطلب أكثر من خمسة أيام بلا بلطة ولا شوكران... ذلك أن القضاة بالتسلسل في المواقع والجرائد سيحكمون بمثليتهم وخَرَفهم وانتهازيتهم وتخابرهم... فيسقطون الواحد تلو الآجر بنزيفٍ حادٍّ في الكرامة.
تضيق هذه الورقة عن هذا الموضوع، فلا أحد يستطيع حصر ترسانة الاستبداد وأساليبه، منذ الحجر حتى الإلكترون، مرورًا بالنار والحديد والكهرباء والغاز والأسِّيد. مثلما لا أحد يستطيع أن يقدّر الدماء التي أُزهقتْ والأرواح التي أُهرقتْ والأجساد التي أحرقتْ أو أُغرقتْ، على امتداد التاريخ، بسبب الاختلاف في العقيدة أو الرأي، في اللون أو العرقِ، لا فرق بين الغرب والشرقِ. ففي الطريق إلى منصات الضوء، دهس الظلام بأقدامه العمياء العديد من الأفذاذ، من مختلف الأحلام والآراء والأجناس والأعراق... وعزاؤهم جميعًا أن صرح الحضارة البشرية مدينٌ لأرواحهم بالكثير من شموخه