
كغَمضةِ عينٍ مضتْ عشرُ ليالٍ من رمضان؛ مضى ثُلثُ الشهر الفضيل، "والثُّلُث كثيرٌ"!، كنا بالأمس فقط نترقّبُ هلال رمضان، واليومَ نجد أن عشرَ ليالٍ قد تفلتتْ من بين أيدينا، وربما بعضُنا لا يزال غافلاً ويُمنّي نفسه أن الشهرَ أيامُه باقيةٌ لا زالت، وأنه سيستدرك ما فاته في القادم من الأيام!.
وسرعة انقضاء شهر رمضان قد أخبرنا الله -عز وجل- عنها حين وصفه بـ: (أَيَامًا مَعْدُودَاتٍ) [سورة البقرة:184] فجمع المؤنث السالم (معدودات) من جموع القلة، أي أن أيامه قليلة (ما هي إلا ثلاثون يومًا) بالنظر إلى أيام العام كله، وفيها إشارة أيضًا إلى سرعة انقضاء الشهر، وهو أمرٌ مشاهَد معلوم عن رمضان عامًا بعد عام؛ إذ تمضي أيامُه ولياليه سريعًا، وليس كغيره من الشهور.
مضى ثلث الشهر، والناس فيها على ثلاثة أصناف:
فريق أحسن استقبالَ رمضان، استعدَّ جيدا، وأقبل من أول ليلةٍ على الصيام والقيام والقرآن والصدقة وسائر الأعمال الصالحة؛ فهذا مُحسنٌ موفقٌ، ولا شك أن إحسانه سيزداد في القادم من الأيام.
وفريق آخر لم يدرِ ما رمضان؟! .. رمضان عنده كغيره من الشهور، وغاية ما يعرف من الشهر الفضيل أنه يصومه وفقط، لا يعرف مسجدًا يقصده للجماعات والتراويح، ولا ليلاً يقوم فيه مع القائمين، ولا مصحفًا يمتع عينيه بالنظر والتلاوة فيه.
وفريق آخر مذبذبٌ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ يصوم لكن صيامه مخرَّق بالمعاصي والذنوب، ويقوم ليلةً وينام أخرى، أو يقوم بضع ركعات مع الإمام ثم يولي هاربًا لا يطيق صبرًا، ويقرأ القرآن في بعض الأحيان ويترك أحايين أخرى.
فانظر في حالك يا أيها الحبيب..
فإن كنتَ محسنًا فيما مضى .. فهنيئا لك، واشكر نعمة الله عليك، ثم زِدْ في إحسانك وطاعتك، واجعل آخر شهرك خيرًا من أوله. وكما يقولون: إن الخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق، وأنت لها!
وأما إن كنتَ مُقصرًا فيما مضى .. فلا زالتِ الفرصةُ سانحةً أمامك، فالعشر الأواسط من رمضان خيرٌ من العشر الأُوَل، والعشر الأواخر خيرٌ من العشر الأواسط بل خير من سائر الشهر؛ فبادر بتوبةٍ من الآن واعزم على الاجتهاد فيما بقي من الشهر غاية الاجتهاد، جاهد نفسك واثبت في محراب التراويح والتهجد، ولا تبارح مسجدك أو مصلاك إلا لضرورة، وأقبل على القرآن، كثّر من الختمات ما استطعت، ومعك مصحف المدينة خيرُ رفيقٍ لك في ختماتك المباركة..
وفي الختام، أوصيك لشحذ همتك في هذه العشر بوصية ابن الجوزي -رحمه الله-: «اعلم أنك في ميدان سباق، والأوقات تنتهب، ولا تخلد إلى كسل، فما فات من فات إلا بالكسل، ولا نال من نال إلا بالجد والعزم، وإن الهمة لتغلي في القلوب غليان ما في القدور» [«صيد الخاطر» (ص175)].